صيد التن رغم الحصة المحدودة افاق التطوير موجودة

تاريخ النشر 19/02/2021


يعتبر قطـاع الصيد البحري بتونـس قطاعا هامّا، إذ يوفّر للبلاد حوالي  %8 من النّاتج الفلاحي ويشغّل حوالي 100 الف شخص، موزّعين بين 60 ألف يشتغلون في هذا القطاع بصفة مباشرة و40 ألف شخص بصفة غير مباشرة .

ومن بين المئة الف مواطن تونسي الذين يعيشون على المداخيل المتأتيّة من قطاع الصيد البحري، هناك حوالي 923 شخصا يرتبطون بقطاع التّنّ الأحــمر.

المتوسط موطن التكاثر

سمـك التّنّ الأحــمر هـــو من الأسماك التي تدخل من المحيط الأطلسي الى الحوض البحر الأبيض المتوسّط للتكاثر في المناطق الدافئة، وتعرف هذه الأسمــاك بجودتهــــا العاليـــة ســواء من حيث المذاق أو القيمة الغذائية الغنية بالبروتينات، لذلك فإنها تفضّل على التنّ الأبيض الذي يبقى عادة بالمحيطات.

وتهــتم عديد البلدان المتوســـطية بســمك التنّ الأحمر، ولـــها تقالــيد راســخة في اصطياده وطهيه وخــاصة في إيطاليا واليونان،  وقد وقع التّهافت على هذه النوعية من الأسماك خاصـة من اليابانيين الذين يشترونه في مواسم معيّنة وذلك بأسعار مغرية،

ويستهلكونه طازجا وهو ما شجّع شركات الصيد بايطاليا خاصـة على اصطياد هذا السمك بطريقة عشوائية جعلت الاحتياطي الموجود بالبحر الأبيض المتوسط ينخفض بشكل كبير.

ويمكن التأكيد أن الاحتياطي العالمي من سمك التنّ قد تدنّى سنة 2000 ليصل الى حوالي 150 ألف طن في العالم بأسره مما فرض على الهيئة الدولية لحماية التُّنيات التي تأسست سنة 1966 بريو دي جانيرو،  اتخاذ جملة من القرارات لتحديد حصة كل بلد في اصطياد هذا السمك.

ونتيجة لهذه السياسة الحمائية عاد الاحتياطي العالمي الى الارتفاع، ليبلغ الان حوالي 585 الف طن ولو أن المنظمات العالمية المختصة في البيئة تشكّك في هذه الأرقام، وتعتبرها مبالغ فيها رغم اعترافها بأن الوضع  تحسّن بشكل كبير عمّا كان عليه سنة 2000.

2117 طنّا حصّة تونس

تضمّ الهيئة الدولية لحماية التُّنيات اليوم أكثر من 50 بلدا، وقد انـخرطت تونـس في هذه الهيئة سنة 1997، وتمّت المصادقة على هذا الانخراط بموجب القانون الصادر في 17 اكتوبر1997، وتقوم هذه الهيئة بعمل دؤوب  لحماية سمك التنّ وتحديد حصة كل بلد في اصطياد هذا السمك سنويا، وقد تولّت في السنوات الأخيرة مراجعة الحصة المسندة لكل بلد بعد أن تحسّن الاحتياطي العالمي.

وقُدّرت حصة تونس من صيد هذا السمك بـ 1057 طنّا سنة 2014، رفع فيها سنة 2015 إلى 1247 طنّا، وتبلغ حصتها سنة 2016  حوالي 1497 طنّا، ثم 2117 طنا سنة 2018 وهو رقم مرتفع مقارنة بالجزائر التي تمتد شواطئها على نفس المسافة تقريبا مع تونس أي حوالي 1300 كلم.

فحصة الجزائر السنوية خلال سنة 2016 كانت في حــدود 543 طـنّا ثم  نطورت سنة 2018 الى 1306 طنا، ويعــود ذلك إلى أنّ تقاليد صيد التن منتشرة في تونس أكثر من الــجزائر ، وذلك لـقرب تونـس من إيطاليـا التي شكّلت السبــب الرئيسـي في انتشار هذا النوع من الصيد بالسواحل التونسية.

تقاليد صيد التنّ

سمك التنّ واصطياده معروف بالبلاد التونسية منذ ما يزيد عن الألف سنة. وقد تفطّن الباحثون لاحقا أن هناك أسرابا من سمك التن الأحمر تدخل من المحيط الأطلسي إلى البحر المتوسط في منتصف فصل الربيع  فتسير محاذية للسواحل على عمق 30 مترا تقريبا من سطح البحر

وتمرّ أسراب السمك بسواحل المغرب ثم سواحل الجزائر ثم تونس عبر مضيق مسينا القريب من الهوارية،

لتصل إلى خليج سرت بليبيا حيث تتكاثر هناك لدفء مياه الخليج ثم بعد انتهاء موسم التكاثر تعود أدراجها إلى مياه المحيط  الأطلسي.

والأسماك التي تدخل حوض المتوسط هي التنّ الأحمر المطلوب كثيرا في الأسواق العالمية، وخاصة في اليابان حيث يقبل الياباني على استهلاكه، شريطة توّفر جملة من الشروط أوّلها أن يكون طازجا، وثانيها أن  يكون لونه أحمر قان، وثالثها أن يكون مقتطعا من وسط السمكة أي من بطنها، ورابعها أن تكون القيمة البروتينية لهذا السمك مرتفعة حسب التحاليل التي تُجرى على لحم هذا السمك.

وقد تعلّم الصيّادون في تونس أصول هذا النشاط بحكم احتكاكهم بالصّيّادين الإيطاليين، الذين كانوا يستدرجون هذا السمك عبر ممرّات يتمّ نصبها داخل مياه البحر حتى تنحصر أسراب التنّ في مصيدة، ثم ينهالون عليها  بالسهام فتحوّل مياه البحر إلى بركة كبيرة من الدماء،  وهذه التقاليد منتشرة خاصة بجهة الهوارية وسيدي داود، وهناك احتفالات سنوية تُجرى بهذه المناسبة.

تقنيات جديدة

نتيجة لتدخّل الهيئــة الدولية لحماية التّنيات، ونــظرا إلى أن المستـهـلك اليـاباني لا يقـبل على شراء هذا السمك إذا لم يكن لونه أحمر قان،

 تغيرت شيئا فشيئا تقنيات الصيد الذي أصبح يتم بواسطة قوارب كبيرة، مجهّزة بالمعدّات التي تكشف أسراب هذه الأسماك،

وتمكّن من صيدها دون رشقها بالسّهام، فيقع دفعها نحو شباك تُنصب لها ثم ترفع السمكة فوق القارب ويقع قطعها والاحتفاظ بالجزء الأوسط منها ويوضع في صناديق باردة يتّم توجيهها عبر الجوّ إلى الأسواق العالمية وخاصة إلى اليابان، بينما يُروّج باقي السمكة بالأسواق التونسية ويقع تحويل وتعليب جزء من هذا الإنتاج الذي يقبل عليه التونسي بشراهة

و  تتمّ عملية التحويل  فوق القوارب نفسها وذلك بطهي لحم السمكة بالماء الذي يغلي، وهو ماء البحر ثم يجفف اللحم الطاهي ويضاف إليه الملح والزيت النباتي أو زيت الزيتون ليعلّب داخل مصانع اشتهرت بها منطقة سيدي داود وأصبحت موجودة كذلك بالمهدية وصفاقس.

لزمات صيد التنّ

لئن عرف سكان تونس صيد سمك التنّ منذ ما يزيد عن الألف عام، فإنّ الانطلاقة الحقيقية لهذا الصيد كانت مع بداية القرن التاسع عشر،

عندما أعطى حسين باي أوّل  لزمة  لصيد سمك التنّ لفائدة محام فرنسي  يدعى بياترو بوفيليو، وكان ذلك سنة 1825 وكانت هذه اللزمة  تخصّ منطقة المنستير وسلقطة،

باعتبار أنّ سواحل هذه المنطقة تشكّل محطة في رحلة هذا السمك إلى خليج سرت. ثم أُعطيت لزمة أخرى لصيد التنّ بسيدي داود وبرأس الجبل لفائدة الكونت جيوسبي رافو.

لكن هذه اللّزمات، سرعان ما لفتت انتباه أصحاب النفوذ بتونس، فتمّ انتزاع لزمة سيدي داود ورأس الجبل لفائدة الجنرال عصمان، ثم لفائدة مصطفى إسماعيل سنة 1879.

لكن بالرغم من ذلك كانت هناك عقود مناولة لفائدة الإيطاليين المختصّين في صيد سمك التنّ.

وعند انتصاب الحماية الفرنسية بتونس لم تهتم فرنسا كثيرا بهذا القطاع، فتركته للإيطاليـين الذين لهم خــبرة واســعة في هذا المجال، ولكن السلطات الفرنسية كانت تنظر بكثير من الخوف لتوسّع نفوذ الصّيّادين  الإيطاليين خاصّة بجهة الوطن القبلي القريبة من سواحل صقلّيّة، وقد اختارت آخر المطاف ترك حرية النشاط للصيادين الإيطاليين وذلك لافتقار الفرنسيين للخبرات اللازمة لاصطياد سمك التنّ أمام السواحل التونسية.

ومع مرور الايام تعلّم التّونسيون خاصّة بجهة سيدي داود والهوارية أصول هذه المهنة وأصبحوا ينشطون لحساب الإيطاليين ثم لحسابهم واشتهرت بذلك أربع مناطق بصيد التن وهي :

  • منطقةقوريا بالمنستير.
  • منطقةسيدي داود والهوارية بالوطن القبلي.
  • منطقةرأس الجبل بولاية بنزرت .
  • منطقةالمهدية.

حماية التنّ الصغير 

يمتدّ موسم صيد سمك التنّ على مدى ثلاثة أشهر، من بداية ماي إلى موفّى جويلية، ويصل طول سمك التنّ أحيــانا إلى حـوالي 3 أمتار، بينما قد يبلغ وزن السمكة حـوالي 300 كلـغ، ولـــكن المــؤســف أنّ عملية  الصيد المتــبـعة في السـابق كانــت تــفـضــي إلى اصطياد التن الصّغير، وهو ما ألحق ضررا بالغا بالاحــتياطي لهــذا النـوع من السمك.

وبعد ان اصبح صيد التنّ يخضع لمراقبة الهيئة الدولية لحماية  التّنيات، تم الزام كل دولة عضوة بأن تحترم حصتها بحيث يمكنها ان تتجاوز هذه الحصة بأكثر من 5% كما عليها أن تحافظ على التنّ الصغير وذلك أما بإعادته للبحر أو بتسمينه بأحواض، وكل ذلك يتطلب استثمارات ضخمة ومؤسسات لها القدرة المالية على امتلاك القوارب الكبيرة ومصانع التعليب والأحواض.

وقد تفاعلت تونس مع توصيات الهيئة الدولية لذلك نجدها عضوا قارا باللجنة الثانية التي تهتّم بالتنّ الأحمر وهي عضو كذلك باللجنة الرابعة التي تعنى بالتنّ الصغــير وسمـك السبــادون وتسـعـى إلى التقيّد الكامل  بتوصيات الهيئة الدولية لحماية التّنيات.

وهناك اليوم نية واضحة في حماية التنّ الصغير وذلك بتربيته عبر أحواض بدأت تظهر خاصة بمنطقة المهدية وهرقلة وهو ما سيزيد في الترفيع في الإنتــاج التونسـي من سمك التنّ عن طريق تربية هذا النوع من  السمك

إعطاء قيمة مضافة للمنتوج

تبلغ قيمة الصادرات التونسية من سمك التّنّ سنويا حوالي 45 مليون دينار وبذلك يأتي سمك التنّ في المرتبة الثالثة في تصدير المنتوجات الفلاحيّة بعد زيت الزّيتون والتّمور.

وهو ما يؤكد أهمية  هذا القطاع في الاقتصاد الوطني، ويفرض العمل على تطويره  من خلال  مضاعفة الاهتمام بهذا المنتوج وتثمينه وإعطائه قيمة مضافة حتى يُقدَّم التن التونسي  للخـــارج في أشكال  متطوّرة تستجيب لأذواق المستهلك بالأسواق العالمية ولا نقتصرعلى تصديره طازجا .

وتوجد كذلك وجبات عديدة يمكن التّفكير في إعدادها بواسطة هذا المنتـوج  وتعــليـبها كمــا يحـصـل في إيطاليا واليونان وفرنسا.

وبعد ان شكّل المعهد الأقيانوسي بقرطاج خلال فترة طويلة، مؤسّسةً اهتمّت بالبحث في قطاع الأسماك والحيتان، وقدّمت خدمات كبرى للصيادين حول طريقة دخول سمك التنّ للمتوسط والمسارات التي كانت تتّبعها أسماك التن والتي تتغيرّ من سنة إلى أخرى، فان هذا المعهد مدعــوّ إلى مواصلة  جهوده في إثراء الاحتياطي التونسي من الأسماك والدّفع نحو تربية هذا السمك بالأحواض، حتّى لا يكون المنتوج التونسي منحصرا في الحصة الدولية المسندة لتونس من قبل الهيئة الدولية.

كما يمكن التفكير في بعث مؤسّسة أخرى تبحث عن تطوير عمليّة التّعليب وتقديم منتوجات جديدة سواء للسوق التونسية أو للأسواق الخارجية انطلاقا من هذه المادّة، ومن زيت الزّيتون ومن الزّيتون نفسه.

فاليوم لنا من الخبرات في قطاع الصّيد والخبراء في الصناعات الــغذائية ما يمكّننا من اقتحام هذه المرحلة بنجاح.ان العالم بات يتغيّر في كل المجالات، والغذاء أصبح سلاحا فعّالا، يتعـيّن أن نحذق استــعماله وتونس تزخر بمواردها الطبيعية وبمنتوجاتها الفلاحية لكن ما ينقصها هو تثمين هذه المنتوجات واعطائها قيمة مضافة،  فلنفكرّ اذا في طرق جديدة لتصدير خيراتنا وفي مقدمتها  زيت الزيتون والتّمور وكذلك التّنّ.