مسألة المديونية لا تنحصر في تعهدات مالية للفلاحين بل لها انعكاس مباشر على السيادة الغذائية الوطنية
لا يزال ملف مديونية القطاع الفلاحي في تونس يثير العديد من التساؤلات ونقاط الاستفهام باعتباره من الملفات والمواضيع المُصنَفة «شائكة وصعبة» إذ أنه لأكثر من عقدين لم تتوصل حكومات النظام السابق ولا حكومات ما بعد الثورة إلى القطع نهائيا وجذريا مع ملف مديونية القطاع الفلاحي ولم يتم التوصل إلى صياغة إستراتيجية واضحة المعالم توقف هذا النزيف.
ولا يكاد يمر موسم فلاحي سواء عند انطلاقته أو عند نهايته إلاَ وتطرح مديوينة القطاع وتأخذ ذروتها خاصة في مواسم الجفاف والإجاحة أو عند حصول أضرار فلاحية جراء فيضانات أو كوارث طبيعية وما ينتج عنها من تذمر وعدم رضا عن الإجراءات التي يتم اتخاذها للمعالجة الظرفية واعتبارها مُسكَنا لإخماد غضب الفلاحين.
والثابت أنه مع كل إعداد للميزانية العامة للبلاد وضبط قانون المالية غالبا ما يقع تجاهل ملف المديونية الفلاحية أو يتم التعامل معه من زاوية الإجراءات العاجلة أو الظرفية من دون إقرار إجراءات هيكلية تؤسس لإصلاح حقيقي ومعمق يخلص الفلاحين من هذا العبء الثقيل الذي قصم ظهورهم على امتداد عقود طويلة
ومن النقاط الغامضة والمثيرة للاستغراب أن كل الحكومات التي تداولت على السلطة قبل الثورة وبعدها دائما ما تطلق الوعود الرنانة بخصوص معالجة المديونية الفلاحية ولكن لم تتجرأ أية حكومة بصفة فعلية على الحسم في هذه المسألة المصيرية التي ترتبط ارتباطا كبيرا بالأمن الغذائي الوطني
إجراءات معالجة المديونية لم تخرج دوما عن مربع المسكنات والحلول الترقيعية
مديونية
وفق المعطيات التي قدمها الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري تبلغ ديون القطاع الفلاحي إلى موفى سنة 2017 لدى البنك الوطني الفلاحي حوالي 1188 مليون دينار موزعة على 855 مليون دينار أصل الدين و333 مليون دينار فوائض
ويبلغ عدد الفلاحين والبحارة المتخلدة بذمتهم ديون الى حدود سنة 2017 ما يقارب عن 70 ألف بعد ان كان هذا العدد في مستوى 125 ألف سنة 2013.
وتبيّن ذات المعطيات أن صغار ومتوسطي الفلاحين والبحارة الذين لا تتجاوز ديونهم 10 آلاف دينار يبلغ عددهم 58400 وهو ما يمثل 84 ٪ من حيث النسبة و428 مليون دينار من ناحية القيمة
وفي قراءة موضوعية لأسباب هذه المديونية نجد أن أغلبها تخرج عن نطاق الفلاحين المطالبين بخلاص فاتورة أخطاء السياسات الاقتصادية والتنموية التي جعلت من الفلاحة "صندوق تعويض" وقطاعا خاسرا على جميع المستويات من الانتاج الى التسويق
أما على صعيد الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمعالجة مشكل المديونية الفلاحية فإن هذه الإجراءات لم تخرج عن مربع المسكنات والحلول الترقيعية ولم تنجح في إخراج الفلاحين من دائرة الديون التي أصبحت بمثابة القيود التي تكبل كل طموحاتهم نحو تطوير مشاريعهم ونشاطاتهم
ذلك أن الاجراءات المتمثلة في الاعفاء من الديون الصغيرة التي لا تتجاوز 2000 أو 5000 دينار وجدولة الديون حوالي 14 مرة منذ سنة 1989 لم تكن لها أية نتائج تذكر ولم تنجح في ايقاف عداد المديونية والقضاء على المشكل بصفة جذرية
وكانت المنظمة الفلاحية قد دعت في عديد المناسبات في لقاءاتها مع الأطراف الحكومية ونقاشاتها مع لجان المالية بمجلس نواب الشعب الى ضرورة التخلي عن سياسة الهروب إلى الوراء في التعامل مع ملف المديونية الفلاحية والتقدم نحو اتخاذ قرارات جريئة وشجاعة ترتقي إلى مستوى انتظارات الفلاحين و إلى مستوى الأدوار الكبرى للفلاحة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية
وفي تقرير رفعه مؤخرا إلى البرلمان بمناسبة مناقشة قانون المالية لسنة 2019 تقدم الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري بجملة من المقترحات في ما يخص المديونية البنكية أهمها
- التخلي على كامل الديون المتخلدة بذمة الفلاحين والتي لا يتجاوز مبلغها من حيث الأصل 10 ألاف دينار
- فسخ كامل فوائض التأخير و 50 ٪ من الفوائض التعاقدية وجدولة أصل الدين على 10 سنوات بالنسبة لفئة الفلاحين المتخلدة بذمتهم ديون تتجاوز من حيث قيمتها 10 ألاف دينار
- إعادة جدولة ديون الفلاحين بدون فائض عند استظهارهم بشهادة إجاحة
- التخلي عن خطايا التأخير بنسبة 20 ٪ لفائدة الفلاحين الذين يتعاملون بالصك كضمان (رهنية) لمساعدتهم في الحصول على قرض جديد للموسم الفلاحي
وإن هذه المقترحات التي تقدم بها الاتحاد تمثل المدخل الحقيقي والطريق المثلى نحو تخليص القطاع الفلاحي من مديونيته المزمنة والثقيلة وهي مقترحات يجب أن تتعامل معها الحكومة بكل جدية لان المسألة لا تنحصر في تعهدات مالية للفلاحين بل لها انعكاس مباشر على السيادة الغذائية الوطنية
ومن هذا المنطلق فإن قرار شطب الديون الفلاحية هو خيار دولة وهو اختيار استراتيجي لمساعدة الفلاحين وتشجيعهم على خلق الثروة والزيادة في الانتاج وغلق باب التوريد الذي يضر بالميزانية العمومية