الفلاحة منسية والسياسات الفاشلة هي ..هي

تاريخ النشر 19/02/2021


تلعب السياسة الجبائية دورا هاما في تنفيذ استراتيجية التنمية ومنوال النمو الذي يقع وضعه سنويا في إطار الميزان الاقتصادي الذي يشكل مرجعية اعداد مشروعي ميزانية الدولة وقانون المالية.

وتضبط السياسة الجبائية بناء على متطلبات المرحلة وطبيعة التحديات المطروحة على الاقتصاد الوطني واستجابة للخيارات الاقتصادية والاجتماعية للدولة.

ولئن تؤمن السياسة الجبائية الموارد الجبائية لميزانية الدولة الا أنها لا تخلو من أهداف اقتصادية واجتماعية تساعد الدولة على تحقيقها من خلال التأثير على قرارات الاستهلاك والإنتاج والاستثمار وتنويع هذا الأخير وتوجيهه نحو القطاعات ذات الأولوية والاستراتيجية في تدعيم التصدير واستخدام التكنولوجيا وتحقيق التنمية الجهوية من جهة، والقطاعات ذات القيمة المضافة العالية الأقدر على ضمان وتدعيم القدرات التنافسية للاقتصاد الوطني وتموقعه في السوق العالمية من جهة ثانية.

ويعكس مشروع قانون المالية لسنة 2020 إرادة الحكومة في تحقيق منوال النمو المعتمد في وثيقة الميزان الاقتصادي لسنة 2020 المنبثق عن وثيقة المخطط الخماسي للتنمية للفترة 2016 – 2020 وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية وذلك من خلال مختلف أشكال الامتيازات الجبائية والمالية التي يقرها مشروع قانون المالية سنويا.

ومن هذا المنطلق تساعد السياسة الجبائية من خلال الامتيازات الجبائية والمالية كافة القطاعات الاقتصادية من فلاحة وصناعة وخدمات على التخفيف من العبء الضريبي من جهة، والتمكين من تدعيم قدراتها الإنتاجية والتشغيلية والتصديرية من جهة ثانية فضلا عن مساعدتها على استحداث طاقات إنتاجية جديدة والترفيع من مستوى أدائها من جهة ثالثة.

كما تساعد السياسة الجبائية على مساعدة القطاعات على تجاوز التحديات الهيكلية والظرفية والنهوض بقدراتها الإنتاجية والتنافسية، الى جانب مساعدتها على التخفيف من اثار سياسة تعديل أسعار المحروقات المتبعة في إطار سياسة التقشف لميزانية الدولة والحد من اثار السياسة النقدية المتشددة المتبعة من قبل البنك المركزي لاحتواء التضخم، واثار سياسة الانفتاح وتحرير المبادلات التجارية في إطار اتفاقيات التبادل الحر.

وفي كل سنة ومع كل مشروع قانون مالية جديد يتطلع الفلاحون الى إجراءات جبائية ومالية من شأنها تخفيف الضغط الجبائي على القطاع والضغط على كلفة الانتاج ومساعدته على مواجهة التحديات الهيكلية والظرفية وتلك المرتبطة بخيارات التقشف والانفتاح.

مرة أخرى غياب الفلاحة في مشروع قانون المالية 2020

رغم تجاهل قانون المالية لسنة 2019 مشاغل ومطالب الفلاحين الذين يعانون صعوبات هيكلية وأخرى مرتبطة بآثار سياسة المالية العمومية التقشفية وبالسياسة النقدية المتشددة وبسياسة الانفتاح وتداعيات اتفاقيات التبادل الحر، ليسجل القطاع في سنة 2019  نسبة نمو في حدود 1.7 بالمائة بالأسعار القارة لسنة 2018 مقابل 9.8 بالمائة في سنة 2018 ، لم يراع مشروع قانون المالية لسنة 2020 مرة أخرى هذه المطالب والصعوبات التي ستتعمق انطلاقا من السنة القادمة بتحرير القطاع الفلاحي والمبادلات التجارية للمنتوجات الفلاحية بمقتضى قانون الاستثمار، والقانون الأفقي للاستثمار وتحسين مناخ الاعمال، وقانون السلامة الغذائية وجودة المواد الغذائية وأغذية الحيوانات.

ولئن أقر الميزان الاقتصادي لسنة 2020 عددا من الصعوبات التي يواجهها القطاع الفلاحي سواء تلك المرتبطة بالعوامل المناخية أو بالطابع الدوري للإنتاج، فقد تم ضبط منوال النمو لسنة 2020 على تطور القيمة المضافة للقطاع بنسبة 2.5 بالمائة وذلك استنادا الى فرضية انتاج 1.300 مليون طن من زيت الزيتون مقابل 800 ألف طن في سنة 2019، وفرضية انتاج 20 مليون قنطار من الحبوب مقابل انتاج 24 مليون قنطار في سنة 2019، وإنتاج 135 ألف طن من منتجات الصيد البحري وتربية الأحياء المائية مقابل انتاج 133 ألف طن في سنة 2019 .

كما اعتمد الميزان الاقتصادي لسنة 2020 على تطور القيمة المضافة للصناعات الغذائية بنسبة 2.1 بالمائة وتطور الاستثمارات الفلاحية بنسبة 11.8 بالمائة لتبلغ 1900 مليون دينار بالأسعار الجارية وذلك استنادا، كما جاء في الوثيقة، الى تطور الاستثمارات الخاصة من خلال الانطلاق في برنامج تأهيل المستغلات الفلاحية والذي سيشمل في مرحلة أولى 100 ألف مستغلة بهدف تطوير مردودها. وفي هذا المستوى لم تتعرض الوثيقة لمصادر تمويل هذا البرنامج الذي يحيلنا الى برنامج تأهيل القطاع الصناعي الذي جاء في إطار اتفاقية الشراكة بين الجمهورية التونسية والاتحاد الأوروبي في سنة 1995 حيث مول الاتحاد الأوروبي هذا البرنامج الذي استفادت منه الشركات غير المقيمة والخاضعة لنظام التصدير الكلي في قطاع النسيج والملابس وقطاع الصناعات الميكانيكية والإلكترونية وهي قطاعات موجهة للسوق الخارجية ولم تنجح في الترفيع في نسبة اندماجها في السوق الداخلية.

ومرة أخرى يكشف الميزان الاقتصادي عن اصرار الحكومة على تحرير القطاع الفلاحي رغم رفض الفلاحين لمشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق "الأليكا" ليتم تمرير برنامج تأهيل القطاع الفلاحي تحت عناوين خفية وأهداف "نبيلة" على غرار تطوير مردودية المستغلات الفلاحية.

في ذات السياق أقر الميزان الاقتصادي لسنة 2020 بضعف نسق نمو الناتج المحلي الإجمالي وهو ضعف يعكس، حسب هذه الوثيقة، شدة ارتباط القطاع الفلاحي بالعوامل الظرفية، التي اختزلها في العوامل المناخية المرتبطة بكميات الأمطار، وفي الطابع الدوري لإنتاج زيت الزيتون. كما اعتبرت الوثيقة أن ضعف نمو القطاع الفلاحي يعود الى ضعف مردودية انتاج الحبوب بسبب التذبذب في نسبة استغلال المساحات المتوفرة.

ومرة أخرى تعمدت الوثيقة تجاهل العوامل الظرفية المرتبطة بسياسة المالية العمومية التقشفية والتي تستند الى رفع الدعم عن المحروقات التي تمثل أكثر من 25 بالمائة في كلفة انتاج المواد الفلاحية وأكثر من 50 بالمائة في كلفة انتاج منتوجات الصيد البحري. كما تجاهلت الوثيقة العوامل الظرفية المرتبطة بالسياسة النقدية المتشددة للبنك المركزي والتي بمقتضاها دخل هذا الأخير في دائرة الترفيع الدوري لنسبة الفائدة المديرية. كما تجاهلت الوثيقة مخاطر تحرير المبادلات التجارية للمنتوجات الفلاحية في إطار مشروع "الأليكا" على ديمومة القطاع المهدد اليوم بالاندثار وباستحواذ الاستثمار الأجنبي عليه.

ففي باب التجارة الخارجية، ورغم إقرار الميزان الاقتصادي لسنة 2020 بأهمية مساهمة القطاع الفلاحي في مجهود التصدير من خلال مساهمة صادرات زيت الزيتون، الا أنه اعتبر أن التحكم في توسع العجز التجاري يبقى رهين الحد من تفاقم العجز الطاقي بدرجة أولى والرفع من المجهود التصديري للقطاعات ذات الميزات التفاضلية العالية والقطاعات الواعدة بدرجة ثانية، وذكر في هذا السياق قطاعي الأثاث والبلاستيك رغم الميزات التفاضلية التي يمكن تثمينها في قطاع الصناعات الغذائية والتي يمكن تحويلها الى قطاعات واعدة بتوفير امتيازات مالية وجبائية تشجع على الابتكار وتوظيف البحث العلمي الفلاحي.

وفي باب ترشيد التوريد لم يتم التنصيص على إجراءات لترشيد توريد المنتوجات الغذائية تحت عنوان توظيف معاليم جمركية أو اجراءات غير جمركية ليقتصر العمل على التحكم في تطور واردات مواد الاستهلاك غير الغذائية في حدود 13.5 بالمائة مقابل 14.5 بالمائة في سنة 2019 .

ولئن أقر الميزان الاقتصادي لسنة 2020 بالمستوى المرتفع للعجز التجاري والعجز التجاري الغذائي وبصعوبة التقليص في مستوى الواردات الا أن مشروع قانون المالية لسنة 2020 لم يقر إجراءات تحد من نزيف التوريد وتشجع على التصدير سواء تصدير المنتوجات الفلاحية أو منتوجات الصناعات الغذائية رغم توقع تحقيق القيمة المضافة للقطاع لنسبة نمو ب 2.1 بالمائة في سنة 2020 .

تواصل تهميش القطاع الفلاحي

ما يلفت الانتباه في تعاطي وزارة المالية والحكومة الحالية مع التحديات الاقتصادية المتعلقة بضعف نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي تهميشها لدور القطاع الفلاحي والصيد البحري في تحسين هذه النسبة وفي تحسين مساهمته فيها وفي تقليص عجز الميزان التجاري وتقليص العجز الجاري.

ولئن أقر الميزان الاقتصادي لسنة 2020 بضرورة النهوض بالقطاع الفلاحي والصيد البحري من خلال برامج وإجراءات تعمد عدم الإفصاح عنها باعتبار ارتباطها بالاستثمار الأجنبي وبقانون السلامة الغذائية وجودة المواد الغذائية وأغذية الحيوانات على غرار "اعداد برامج عمل للتقدم في مجال إرساء سلاسل القيمة وتطوير منظومة الإنتاج في القطاع الفلاحي" فانه – أي الميزان الاقتصادي – لم يحدد إجراءات تحفيزية وامتيازات بعنوان مشروع قانون المالية لسنة 2020 تشجع على توجيه الاستثمار الفلاحي الوطني وتوظيفه في خدمة الأهداف الاستراتيجية للمرحلة القادمة المنصوص عليها في وثيقة الميزان الاقتصادي لسنة 2020  والمتمثلة في الرفع في مستوى النمو من خلال إعادة دعم النمو الاقتصادي واحداث مواطن شغل وذلك استنادا الى:

  •  مواصلة تحسين مناخ الأعمال واحداث نقلة نوعية في المجهود الاستثماري،
  •  اعتماد مقاربات متجددة لتفعيل السياسات القطاعية بما يعني السياسات الفلاحية والصناعية وفي قطاع الخدمات وتكريس اندماج أكثر فاعلية في الاقتصاد العالمي والتموقع الاستراتيجي في سلاسل القيمة المضافة.

ان دعم النمو الاقتصادي الذي يمر عبر دعم النمو في مختلف القطاعات الاقتصادية بما في ذلك القطاع الفلاحي يفترض سياسة جبائية تحفيزية تأخذ بعين الاعتبار كل العوامل الهيكلية والظرفية وتلك المرتبطة بسياسة المالية العمومية التقشفية والسياسة النقدية المتشددة وسياسة تحرير القطاع الفلاحي في إطار اتفاقيات التبادل الحر، الا أن مشروع قانون المالية لسنة 2020 لم يخرج عن سياق قانون المالية لسنة 2019 في تعاطيه مع القطاع الفلاحي حيث لم نسجل إجراءات جبائية خاصة بالقطاع باستثناء اجراء وحيد يبدو أنه لفائدة قطاع الصيد البحري ولكنه موجه لشركات معينة ويتعلق بمنح توقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة للخيوط النسجية من البوليستار والنيلون الموجهة لصنع وإصلاح الشباك والحبال المستعملة في الصيد البحري، ولأسلاك من الفولاذ الموجهة لصنع الحبال من الحديد أو الصلب المعدة للصيد البحري.

لقد واصلت حكومة الشاهد تهميشها للقطاع الفلاحي من خلال مشروع قانون المالية لسنة 2020 حيث كان من المفروض إقرار إجراءات جبائية تساعده على تحقيق نتائج أفضل والمساهمة أكثر في نمو الناتج المحلي الإجمالي وفي تقليص عجز الميزان التجاري وفي خلق مزيد من مواطن الشغل وفي تحقيق الأمن الغذائي.

ومرة أخرى تتخلى الحكومة عن القطاع الفلاحي الذي أضحى في حاجة الى إجراءات جبائية ومالية تمكنه من تدعيم قدراته الإنتاجية والتنافسية في مواجهة اثار الخيارات الاقتصادية والاجتماعية لحكومات ما بعد الثورة وتأخذ بعين الاعتبار:

  •   ارتفاع تكلفة الإنتاج الناتجة عن توريد البذور والأعلاف والاسمدة والتجهيزات والمعدات وقطع الغيار
  •  تواصل انزلاق قيمة الدينار مقابل الدولار والأورو والاعلان عن ذلك في الميزان الاقتصادي لسنة 2020
  •  إصرار البنك المركزي على اتباع سياسة نقدية متشددة تتجسد من خلال الترفيع الدوري في نسبة الفائدة المديرية وتأثير ذلك على كلفة التمويل البنكي وبالتالي على كلفة الإنتاج وهو ما تم الإعلان عنه في الميزان الاقتصادي لسنة 2020 بغاية مزيد احتواء نسبة التضخم
  •  اتباع وزارة المالية لسياسة التعديل الالي لأسعار المحروقات في مشروع قانون المالية لسنة 2020 وهو ما أكدت عليه من خلال التقليص في منحة دعم المحروقات والكهرباء الى 1880 مليون دينار مقابل 2538 مليون دينار محينة لسنة 2019 أي بانخفاض قدره 658 مليون دينار وإقرار اجراء تعديل لأسعار البيع للعموم في سنة 2020
  •  حدة المنافسة في السوق الداخلية بسبب التوريد المكثف للمنتوجات الغذائية ورفع الحواجز الجمركية وغير الجمركية في إطار تحرير المبادلات التجارية للمنتوجات الفلاحية في إطار اتفاقية الشراكة بين الجمهورية التونسية والاتحاد الأوروبي لسنة 1995
  •  دخول مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق بين الجمهورية التونسية والاتحاد الأوروبي، قبل التوقيع عليه، حيز التنفيذ باعتبار مصادقة مجلس نواب الشعب على القانون الأفقي للاستثمار وتحسين مناخ الأعمال، وقانون الاستثمار، وقانون السلامة الغذائية وجودة المواد الغذائية وأغذية الحيوانات، وقانون الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص وغيرها من القوانين التي ترمي الى فتح القطاع الفلاحي أمام المستثمر الأجنبي
  •   تداعيات التغيرات المناخية على مردود القطاع وقدرته التنافسية.

رهانات التصدير وغياب الامتيازات الجبائية

 السياسة الجبائية تشكل أيضا أحد اليات النهوض بالقطاع وتدعيم قدراته التنافسية وتعزيز تموقعه في الأسواق العالمية. وقد كان لغياب هذه السياسات تأثير على هيكلة الصادرات التونسية من المنتجات الفلاحية التي لم تتغير منذ الاستقلال الى اليوم لتبقى مقتصرة على زيت الزيتون الذي يحتل المرتبة الأولى بحصة تناهز 34.1 بالمائة من جملة الصادرات الغذائية، ثم التمور بحصة في حدود 14.1 بالمائة، فمنتجات الصيد البحري بنسبة 13.9 بالمائة، والغلال الصيفية بحصة في حدود 8.3 بالمائة.

وتفيد دراسة أنجزتها الإدارة العامة للإنتاج الفلاحي التابعة لوزارة الفلاحة في جوان 2019 أن تنويع الأسواق الخارجية يظل من أهم التحديات التي تواجهها صادراتنا من المنتجات الفلاحية فضلا عن تدعيم تموقعنا في الأسواق التقليدية حيث تبقى هذه المنتجات في حاجة الى تثمين والى مزيد العناية بعلامة الجودة فضلا عن تطوير النظام اللوجيستي للتصدير وتعزيز عمليات التسويق والترويج وخاصة التسويق الرقمي.

 وأفادت الدراسة أن قطاع التمور مهدد بمنافسة شديدة في الأسواق التقليدية من قبل السوق الجزائرية التي تنتج مليون طن بفضل حوافز وتشجيعات كبيرة لفائدة المهنيين، كما أن صادراتنا من التمور ستفقد ميزتها التفاضلية بعد سنة 2025 بسبب تزامن شهر رمضان مع فترة الإنتاج، كما سنفقد السوق المغربية في سنة 2025 التي تعتبر السوق الأولى لصادراتنا بسبب تطور الإنتاج في المغرب.

وفي مقابل هذه التحديات لم يتعرض مشروع قانون المالية لسنة 2020 لأي إجراءات جبائية ومالية تساعد على توجيه الاستثمارات الفلاحية نحو هذه القطاعات وتؤمن لها كل شروط التدعيم والتثمين للحفاظ على ميزاتها التفاضلية للتموقع في الأسواق العالمية باعتبار أن مواجهة تحديات سنة 2030 ينطلق من اعداد مشروع قانون المالية لسنة 2020.