التوريد العشوائي للمنتوجات الفلاحية التبعية على مستوى التوريد ترتفع الى 61 % سنة 2019 بعد ان كانت في حدود 50 % سنة 2018
هل نحن في حاجة إلى التوريد ؟ سؤال محوري وجوهري كان منطلقنا الأساسي في تناولنا لملف التوريد الذي بات يشكل خطرا حقيقيا على منتوجاتنا المحلية وعلى منظومات الإنتاج..وبالعودة إلى الأرقام ومقارنتها بالسنوات الفارطة، يمكن الإقرار بأن التوريد بلغ أشٌدّه هذه السنة حتى أنه يمكننا عنونتها ب"سنة التوريد" بامتياز.
وان اكثر ما يثير الاستغراب ويدعو الى التعجب في هذا السياق ان " طعنة" التوريد العشوائي التي اصابت فلاحتنا مصدرها فلاح هو عمر الباهي الذي كان في السابق منتقدا شرسا لسياسة التوريد ولكنه منذ جلوسه على كرسي وزارة التجارة تنكر لماضيه و أصله وخان من صنعوا له اسما وأوصلوه الى المنصب فارتفعت في عهده واردات البلاد الى مستويات قياسية وشهد الميزان التجاري عجزا تاريخيا و أصبحت حدودنا مفتوحة على مصراعيها امام المنتوجات القادمة من وراء البحار والتي يتم ترويجها في أسواقنا حتى ان كانت مريضة ولا تستجيب لشروط السلامة الصحية
الوزارة وفاتورة الخسارة
أمثلة التوريد العشوائي عديدة وغزو المواد الفلاحية الاجنبية لأسواقنا لا حدود له، فتوريد مادة البطاطا مثلا في ذروة الإنتاج بكمية 5900 طن وبقيمة 4.8 مليون دينار لم يساهم في تخفيض الأسعار على مستوى الاستهلاك بل ضرب فقط مداخيل الفلاحين الذين وجدوا انفسهم مجبرين على بيع محاصيلهم بالخسارة نتيجة القرارات الجائرة لوزارة التجارة التي اغرقت السوق بالبطاطا الموردة التي بلغت كلفة توريدها 1600 مليم للكلغ الواحد وفي المقابل رفضت شراء البطاطا المحلية من الفلاح التونسي ب 850 مليم / كلغ
وفي قراءة لفاتورة الخسائر الناجمة عن توريد البطاطا نجد ان قيمة الخسائر (دون اعتبار كلفة التوريد المقدرة ب10 مليون دينار) بلغت 1.2 مليون دينار في صفوف المنتجين و10.8 مليون دينار على مستوى الميزان التجاري، كما خسرت الدولة 3.84 مليون دينار كامتيازات جبائية مهدورة و3 مليون دينار بعنوان الدعم الذي ناهز 900 مليم عن كل كلغ من البطاطا الموردة
وباحتساب هذه الخسائر بالإضافة إلى خسائر البيع عند الإنتاج بأقلّ من التكلفة والتي بلغت 24 م.د،فان الخسائر الجملية لقطاع البطاطا في هذه السنة قدرت بحوالي 34 م.د.
قطاع اللحوم …كذلك مظلوم
لم يسلم قطاع الدواجن بدوره من ضربات وزارة التجارة التي تسببت عبر قراراتها الارتجالية والأحادية في انهيار هذه المنظومة التي عاشت سنة 2019 على وقع ازمات حادة بسبب توريد بيض تفقيس دجاج اللحم خارج إطار الحصة وتوريد الدجاج الجاهز للطبخ وكذلك بيض الاستهلاك.
فقد تمّ إلى حدود شهر مارس 2019 توريد 2.5 مليون بيضة تفقيس دجاج لحم و400 طن من الدجاج الجاهز للطبخ و6 مليون بيضة استهلاك مرخص فيها الى جانب فتح الباب لإدخال 20 مليون بيضة مهربة.
وتسببت عمليات التوريد هذه في إرباك المنظومة وانهيار الاسعار على مستوى الانتاج اما من ناحية الارقام فقدت بلغت خسائر قطاع الدواجن خلال النصف الاول من السنة الحالية حوالي 160 مليون دينار نتيجة التوريد العشوائي والمقنن لبيض الاستهلاك واللحوم البيضاء.
وفي قطاع اللحوم الحمراء كانت كل المؤشرات تقريبا "حمراء" سنة 2019 في ظل الاصرار غير المفهوم من وزارة التجارة على توريد اللحوم رغم وفرة الانتاج الوطني حيث بلغت كميات اللحوم المورّدة خلال الخمس الأشهر الأولى من السنة الحالية 2.4 ألف طن بقيمة 23.5 مليون دينار مقابل 1.8 الف طن في نفس الفترة من السنة الماضية بقيمة 19.2 مليون دينار.
ولئن تسببت سياسة إغراق السوق المحلية باللحوم الموردة في خسائر جملية للقطاع بقيمة 13.63 مليون دينار الى حدود شهر جوان الماضي فان هذه السياسة لم تنجح في المقابل في تعديل ميزان الاسعار على مستوى الاستهلاك حيث تبين الأرقام أن مؤشر الأسعار لم ينخفض في فترات التوريد بل ارتفع بنسبة 6% في لحوم الضأن و9% في لحم البقري.
وللحليب نصيب…
في الوقت الذي "بحت" فيه اصوات المهنيين للمطالبة بإنقاذ منظومة الالبان التي تتوجه بخطى متسارعة نحو الانهيار نتيجة ارتفاع كلفة الانتاج وتجاوزها بنسبة كبيرة لسقف أسعار البيع المحددة من الدولة اختارت وزارة التجارة مواصلة التضحية بالفلاح التونسي وحرمانه من حقه في زيادة مستحقة في سعر الحليب بحجة الانعكاسات السلبية لهذه الزيادة على المالية العمومية وفي المقابل لا تجد هذه الوزارة مانعا او حرجا في تبذير المال العام في صفقات التوريد حيث ارتفعت قيمة واردات الحليب ومشتقاته من 51 مليون دينار سنة 2018 إلى 76.6 مليون دينار سنة 2019.
و رغم عدم توريد الحليب الطازج إلا أن قيمة واردات بقية مشتقات وأنواع الحليب (غبرة وغيرها) ازدادت بصفة ملحوظة وأثرت بصفة سلبية على نسق الإنتاج و الاستثمار في هذا القطاع وزادت في تعميق الخلل على مستوى الميزان التجاري.
ومن ناحيته لم ينج قطاع الصيد البحري من "الغرق" في مستنقع التوريد نتيجة اصرار وزارة التجارة على توريد منتجات البحر الطازحة والمجمدة رغم تطور الإنتاج الوطني في هذا المجال بنسبة 3%، حيث بلغت الكميات الموردة خلال الخمسة أشهر الأولى من السنة الحالية 21.5 ألف طن بقيمة 115 مليون دينار وبلغت قيمة الخسائر في القطاع تبعا لذلك 7.5 مليون دينار.
وزارة "الموز"
لا يمكن لمن يتصفح شريط الاحداث الفلاحية للسنة الحالية ان ينسى المشاهد المحزنة والموجعة لصابة الغلال الصيفية (خوخ – مشمش – دلاع …) وهي تتلف في الحقول وتلقى في المزابل بعد ان عجزت الاسواق عن استيعابها بسبب وفرة الانتاج
وفي حين كان الفلاحون ينتظرون تدخلا من وزارة التجارة لمساعدتهم على ترويج الصابة و التخفيف من حدة الازمة التي واجهتهم جاء تدخل الوزارة ليزيد في تعميق ازمتهم من خلال اصدار قرار بمنع تصدير الغلال وكان هذه الوزارة تتصيد الفرصة لمعاقبة المنتجين ودفعهم نحو الافلاس والانقطاع عن النشاط خدمة لمافيات التوريد
ولعل ما يضفي الشرعية على هذه الفرضية هو تعمد الوزارة اغراق السوق المحلية بالموز المورد في فترة ذروة انتاج الغلال الصيفية وهو ما كان له انعكاسات سلبية تسببت في خسائر للمنتجين بقيمة تجاوزت 3 مليون دينار وزادت في ارهاق الميزان التجاري الغذائي بكلفة توريد الموز التي فاقت خلال الاشهر الستة الاولى من السنة الحالية 41 مليون دينار
الضغط على الأسعار حديث هُراء
في دفاعها عن سياسة التوريد تلجأ وزارة التجارة دائما الى تبرير هذه السياسة بمسؤوليتها عن ضمان التوازن بين العرض والطلب في السوق والضغط على الاسعار حماية للمقدرة الشرائية للمواطن
ولكن الواقع على الميدان يثبت الفشل الواضح للوزارة في تحقيق هذه الاهداف بالنظر الى ان المنتوجات الموردة لم تلق الاقبال من قبل المستهلك التونسي لعديد الاعتبارات المتعلقة بالجودة والسلامة الصحية ولم تساهم بالتالي في تعديل السوق سواء من ناحية الكم او الاسعار
ولعل المساهمة الوحيدة التي تحسب في رصيد وزارة التجارة من خلال اغراقها للسوق بالمواد الفلاحية الموردة هي تحقيق رقم قياسي في عجز الميزان التجاري الغذائي بلغ خلال شهر سبتمبر الماضي 1.1 مليار دينار مقابل عجز بـ 294 مليون دينار في الفترة نفسها من العام الماضي الى جانب الرفع في نسبة التبعية الوطنية على مستوى التوريد الى 61 % سنة 2019 بعد ان كانت في حدود 50 % سنة 2018
لجنة التوريد في ثلاجة التجميد
ان كل هذه الارقام والمعطيات تثبت ان وزارة التجارة قد سقطت في ايدي لوبيات ومافيات هدفها الوحيد خدمة مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة الوطنية وعلى حساب عرق الفلاحين الذين كانوا في السابق يعاندون كل الصعوبات من اجل مواصلة العمل والإنتاج ولكنهم اليوم يجدون انفسهم امام "غول" اقوى من الدولة والقانون…هذا الغول هو وزارة التجارة التي تحولت الى وزارة للمتاجرة بمصلحة البلاد والاقتصاد والى اداة لتدمير الفلاحة التونسية
وان ما يثير الشبهات في ممارسات هذه الوزارة هو اصرارها على تجميد اللجنة الوطنية للتوريد حتى تتمكن من انجاز الصفقات مثلما تريد دون حسيب او رقيب ولكن ما لا يعلمه القائمون على هذه الوزارة ان التاريخ سيحاسبهم لا محالة على كل ما اقترفوه في حق الوطن وفي حق فلاحتنا التي طالما خانتها الطبيعة بقساوتها ولكن الخيانة التي تعرضت لها من احد ابنائها (عمر الباهي ) اشد الما و قساوة