قانون السلامة الغذائية ...صفعة أخرى في وجه الفلاحة التونسية

تاريخ النشر 17/02/2021


المصادقة على قانون السلامة الغذائية هو اقرار بدخول اتفاقية " الأليكا" حيز التنفيذ ليبقى التوقيع عليها أمرا شكليا وبروتوكوليا

صادق مجلس نواب الشعب يوم الثلاثاء 12 فيفري 2019 على مشروع القانون المتعلق بالسلامة الصحية للمواد الغذائية وأغذية الحيوانات بأغلبية مريحة بمائة صوت بحضور وزير الصحة.
أغلب تدخلات النواب في جلسة المصادقة ثمنت مشروع القانون باعتباره حسب رأيهم، سيدعم عملية تصدير المنتوجات الفلاحية والغذائية التونسية نحو السوق الأوروبية.
رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري التقى يوم الجمعة 15 فيفري 2019 برئيس الجمهورية حيث افاد بأن اللقاء تناول الوضع الفلاحي وأهمية تحقيق الأمن الغذائي كجزء من الأمن القومي، مشيرا في ذات السياق الى أن التعاطي مع مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق "الأليكا" يستوجب تأهيلا مسبقا للقطاع الفلاحي.
هذا التصريح كشف عن حالة القلق التي دفعت برئيس منظمة الفلاحين الى الإسراع الى مقابلة رئيس الجمهورية عله يجد لديه، بعد تفريط السلطة التشريعية في القطاع الفلاحي لفائدة المستثمر الأجنبي، تفهما يعيد الكفة لصالح الفلاح التونسي.
في ذات السياق، ويوم السبت 16 فيفري 2019 صرح وزير التجارة لإحدى الجرائد التونسية أن تونس لن تنخرط في اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق "الأليكا" الا بعد أن تقوم بتأهيل القطاع الفلاحي على امتداد 10 أو 15 سنة.
وبتاريخ 20 فيفري 2019 عبر الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري عن رفضه تمرير اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي "الأليكا" في صيغتها الحالية، وشدد على ضرورة التنسيق مع المنظمات الوطنية وكافة مكونات المجتمع المدني لتوحيد المواقف وتنسيق التحركات من خلال ضبط ميثاق وطني يؤسس لصياغة موقف وطني موحد يحافظ على سيادة تونس واستقلالها ومصالح شعبها.
وطالب الاتحاد في هذا السياق رئيس الجمهورية بعدم التأشير على قانون السلامة الصحية وجودة المواد الغذائية وأغذية الحيوانات وإرجاعه الى البرلمان لمزيد التداول والتعديل، محذرا من تداعيات هذا القانون على الفلاحين وعلى الأمن الغذائي للبلاد.

نقاط استفهام كثيرة
ويثير القانون المتعلق بالسلامة الصحية وجودة المواد الغذائية وأغذية الحيوانات الذي قدمته الحكومة ببادرة من وزارة الصحة العمومية، نقاط استفهام كثيرة بخصوص طبيعة التحديات التي يمكن أن يفرزها هذا القانون على الاقتصاد الوطني بقطاعاته الثلاثة (الفلاحة والصناعة والخدمات) باعتبار أن هذا القانون يهم المنتوجات الفلاحية والغذائية المعدة للاستهلاك الإنساني وأغذية الحيوانات ويغطي كل السلسلة الغذائية كما تم تعريفها بالنقطة 13 من الفصل 4 من مشروع القانون والتي تهم " كل المراحل التي تمر بها المواد الغذائية والتي تشمل الإنتاج الأولي والإنتاج والمعالجة والتحويل والتعبئة والتغليف والنقل والخزن والتوزيع والعرض للبيع والتصدير والتوريد".
وبناء على وثيقة شرح الأسباب والنقاشات التي سجلتها أشغال لجنة الفلاحة والأمن الغذائي والتجارة والخدمات ذات الصلة بتاريخ يوم الخميس 3 جانفي 2019 بدأ الاعداد لهذا المشروع منذ سنة 2005 على أساس انطلاق المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق في سنة 2008 ، إلا أن الظروف السياسية حالت دون مواصلة النظر فيه، ليتم إعادة النظر في محتواه انطلاقا من شهر أوت 2014 ويعرض على مجلس وزاري مضيق بتاريخ 17 ماي 2016 في عهد الحبيب الصيد ثم تم عرضه على مجلس الوزراء في 23 سبتمبر 2016 وإحالته على مجلس نواب الشعب يوم 28 سبتمبر 2016 .
وبعد رحلة طويلة انطلقت في لجنة الفلاحة والأمن الغذائي والتجارة والخدمات ذات الصلة يوم 20 ديسمبر 2016، حط مشروع القانون الرحال مرة أخرى في اللجنة للنظر فيه يوم الخميس 3 جانفي 2019 كمشروع عادي يرمي الى حماية صحة الانسان والحيوان وتأمين الوقاية من المخاطر الصحية حسب موقف الحكومة، ليحال على الجلسة العامة يوم الثلاثاء 12 فيفري 2019 والمصادقة عليه دون اعتراض أو رفض من أي كتلة برلمانية.

تعاطي الحكومة مع هذا المشروع غابت عنه الجدية وطغى عليه التضليل والتعتيم باعتبار تجنب الطرف الحكومي ممثلا في وزارات الفلاحة والتجارة والصحة والبيئة تحليل الخلفيات الحقيقية للمشروع وتداعياته المحتملة على الاقتصاد الوطني من خلال انجاز دراسات علمية تتناول اثاره وكلفته الاجتماعية والاقتصادية والمالية.
وباستثناء وزير التجارة الذي حاول بطريقة محتشمة أثناء عرضه في اللجنة البرلمانية، وضع مشروع القانون في اطاره الحقيقي، ركزت بقية الوزارات بعد التنويه به، على الجانب الفني المتعلق برقابة السلامة الصحية والجودة والتسويق له على أن الهدف منه هو إيجاد اطار قانوني خاص وموحد لضمان السلامة الصحية وجودة المواد الغذائية وأغذية الحيوانات لتأمين صحة الانسان والحيوان والوقاية من المخاطر الصحية المرتبطة باستهلاك المواد الغذائية ، ووجهت الأنظار الى حرصه على ملاءمة التشريع الوطني في مجال المواد الغذائية وأغذية الحيوانات مع ما هو معمول به على المستوى الدولي وخاصة الأوروبي بالنظر، كما جاء في وثيقة شرح الأسباب، الى حجم المبادلات التجارية في هذا المجال مع الشريك الأوروبي.
حكومة الشاهد سوقت أيضا لهذا المشروع على أنه يندرج ضمن سلسلة من الإصلاحات الهيكلية الهادفة الى حماية صحة المواطن وتطوير الاقتصاد الوطني.
وزير التجارة لاحظ أن مشروع القانون يعتبر من الالتزامات المحمولة على الجانب التونسي في اطار الالية الأوروبية للدعم المالي الكلي ومن ضمن التزامات برنامج دعم الاندماج الاقتصادي لسنتي 2009 و2010 متجنبا الحديث عن الاطار الحقيقي للمشروع المتمثل في اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق ، والتعرض للمرجعية القانونية الأصلية المتمثلة في اتفاقية تطبيق تدابير الصحة والصحة النباتية والمعوقات الفنية أمام التجارة للمنظمة العالمية للتجارة والتي صادقت عليها الجمهورية التونسية بالانضمام اليها بموجب القانون عدد 6 لسنة 1995 المؤرخ في 23 جانفي 1995 ، وأن هذا المشروع هو أحد البنود الأساسية لاتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق في باب تحرير القطاع الفلاحي والتي بدورها تستند الى أحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة.
ويشكل القانون المتعلق بالسلامة الصحية أحد البنود الأساسية لاتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي في باب تحرير القطاع الفلاحي الخاضعة بدورها الى أحكام اتفاقيات النظام التجاري متعدد الأطراف للمنظمة العالمية للتجارة.
وتعتمد اتفاقية تطبيق تدابير الصحة والصحة النباتية المعايير الدولية التي وضعتها المنظمات الدولية الثلاثة المعنية بذلك وهي المنظمة العالمية لصحة الحيوان والاتفاقية الدولية لحماية النباتات وهيئة الدستور الغذائي لتشكل هذه المعايير شرطا أساسيا لنفاذ المنتوجات الفلاحية والغذائية الى الأسواق العالمية.
ما يلفت الانتباه في هذا المستوى أن ممثلي المنظمات المهنية الحاضرين في أشغال اللجنة بصفة استشارية لاحظوا وجود عبارات وصفوها بالمسقطة في مشروع القانون مثل "هيئة الدستور الغذائي " التي تم حذفها بناء على ملاحظتهم دون قيام الجانب الحكومي بالتعريف بهذه الهيئة وأسباب التنصيص عليها في نص المشروع.
وهيئة الدستور الغذائي هي هيئة حكومية دولية شكلت من قبل منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية من أجل حماية صحة المستهلكين وتيسير تجارة الأغذية عن طريق وضع معايير غذائية دولية يتم عرضها على الحكومات قصد اعتمادها. وقد وضعت هذه الهيئة ما يسمى بالدستور الغذائي الذي هو عبارة عن مجموعة مواصفات ومدونات وممارسات وخطوط توجيهية وتوصيات. ويحتوي الدستور على نصوص عامة وأخرى محددة. وفيما يتناول البعض منها الشروط المفصلة المتعلقة بنوع من الأغذية أو بمجموعة منها، يتناول البعض الاخر كيفية إدارة عمليات الإنتاج وتشغيل أنظمة الرقابة الحكومية وذلك حرصا على سلامة الأغذية وحماية المستهلك.
ومن خلال طبيعة مهام الدستور يتضح أن الهدف من هذه المواصفات والمعايير مزدوج، يتعلق الأول بحماية صحة المستهلك فيما يتعلق الثاني بتيسير تجارة المنتوجات الفلاحية والغذائية.
من هذا المنطلق فان استغرابنا من تعاطي الجانب الحكومي مع ما اعتبره ممثلو المنظمات المهنية بالعبارات المسقطة يتعمق، باعتبار أن المعايير المنصوص عليها في مشروع القانون منبثقة عن الهيئة ودستورها الغذائي. وفي تقديرنا فان حذف "هيئة الدستور الغذائي" في النص المعدل للمشروع يخفي موقفا خطيرا لحكومة الشاهد التي تريد طمس الحقائق واخفاء المرجعية الأصلية للمشروع في علاقة مع الجانب المتعلق بالمبادلات التجارية للمنتوجات الفلاحية والغذائية وتحرير القطاع الفلاحي في إطار اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي.
واستناد للمبادئ العامة للدستور الغذائي، الذي يعتبر المرجعية العالمية للمستهلكين ومنتجي الأغذية ومصنعيها ، أي مرجعية لأجهزة رقابة الجودة محليا ودوليا وعلى صعيد التجارة الدولية ، يتضح أن الأطراف المعنية بإعداد وصياغة وتصميم مشروع القانون لا يتوقف عند وزارات الصحة والفلاحة والتجارة والبيئة بل تشمل أيضا وزارتا النقل والصناعة لنتساءل عن أسباب غيابها وعدم تشريكها ، ونتساءل أيضا عن أسباب اقتصار دور المنظمات النقابية والمهنية عند الدور الاستشاري في حين أن منخرطيها ملزمون بمقتضى مشروع القانون باحترام هذه المعايير على كامل السلسلة الغذائية.

اتحاد الفلاحين يعترض بقوة على القانون ويدعو رئيس الجمهورية إلى عدم التأشير عليه وإرجاعه الى البرلمان لمزيد التداول والتعديل

ومرة أخرى تعمدت حكومة الشاهد تجنب وضع مشاريع القوانين ذات الصلة بتحرير المبادلات التجارية في مجالي الفلاحة والخدمات في اطارها السياسي ذو البعد الإقليمي المرتبط باتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق كما كان الشأن مع قانون الاستثمار وقانون المنافسة وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وغيرها من القوانين التي تندرج ضمن الإصلاحات الهيكلية الرامية الى استكمال الإطار التشريعي والقانوني لتحرير الاقتصاد وتوسيع مجال تحرير المبادلات التجارية الداخلية والخارجية.
ولئن يكتسي البعد الفني في هذا القانون المتعلق بمعايير السلامة الصحية وعمل أجهزة الرقابة على كامل السلسلة الغذائية بما في ذلك مرحلتي التوريد والتصدير أهمية، فان الجانب المتعلق بالمبادلات التجارية بين تونس والاتحاد الأوروبي، يشكل خطورة على مستقبل الصادرات التونسية من المنتوجات الفلاحية والغذائية.
فهذا القانون الذي هو ذو طابع اجباري وإلزامي على المستغلين المطالبين بالامتثال له في أجل أقصاه سنتين بعد صدوره بالرائد الرسمي، يشكل تهديدا حقيقيا للقطاع الفلاحي في هذه المرحلة التي يعاني فيها القطاع صعوبات تعود الى غياب سياسة فلاحية حقيقية واستراتيجيا تأخذ بعين الاعتبار التحولات الداخلية والإقليمية والمناخية.
ويتفق الخبراء في التجارة الدولية على أن احترام أحكام هذه الاتفاقية من خلال ملاءمة التشريع الوطني معها، كما هو الحال في تونس، يتطلب تمويلات هامة وكفاءات عالية فضلا عن قطاع فلاحي متطور وقادر على الاستجابة لمثل هذه المعايير التي تتحول الى قيود أمام النفاذ الى الأسواق الأوروبية.
وفي الوقت الذي يفترض فيه أن تتولى حكومة الشاهد التنبيه للمخاطر المحتملة، في صورة عدم احترام معايير الجودة، على صادراتنا الفلاحية نحو السوق الأوروبية وفي مقدمتها صادرات زيت الزيتون والتمور، والاعلام بكلفة ذلك وتداعياته على الأسعار وعلى القدرة التنافسية، اتجهت هذه الحكومة الى التسويق للقانون بطريقة عادية بعيدة عن التحديات التي يطرحها عند التنفيذ.

الوزارات المعنية بقانون السلامة الغذائية ركزت على الجوانب الفنية وحاولت طمس الحقائق وإخفاء الأهداف الحقيقية والأبعاد السياسية لهذا القانون

ولئن يهدف القانون الى حماية صحة المواطن وتطوير الاقتصاد الوطني، فهو لا يخلو أيضا من مخاطر حقيقية تهدد صادراتنا الفلاحية، وتمهد لانتصاب الشركات الأوروبية والعالمية في مجال الصناعات الغذائية وصناعة الادوية وكل المجالات المرتبطة بالقطاع الفلاحي والصيد البحري والغابات، حيث ستنتفع بمزايا هذا القانون والبرامج المنبثقة عنه والمتعلقة بالتأهيل وتدعيم البنية التحتية في اطار المساعدة الفنية والمالية المبرمجة مع الاتحاد الأوروبي الذي سيعمل، كالعادة، على التسويق لاتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق من باب المساعدة الفنية والمالية، على غرار برنامج تأهيل الصناعة الذي أقر في اطار اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995 والذي استفادت منه الشركات غير المقيمة على حساب الشركات التونسية.
موقف الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري في أشغال اللجنة البرلمانية كان واضحا حيث أشار الى ارتباط مشروع القانون باتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق منبها في ذات الوقت الى أنه لا يخدم الواقع الفلاحي في تونس الذي وصفه بالهش والمهمش.
وعدد ممثلو الاتحاد في هذا السياق بعض الاخلالات التي يعاني منها القطاع والمتمثلة أساسا في:
- غياب هيكلة للقطاع الذي لا يقوم على منشئات فلاحية كبرى بل يتميز بسيطرة صغار الفلاحين محدودي المستوى التعليمي، كما يتميز بكثرة الدخلاء بسبب غياب تحديد قانوني لمصطلح "الفلاح"،
- وجود فساد كبير في مستوى مسالك الأدوية الفلاحية وغياب منظومة مراقبة في الغرض.
ونبه الاتحاد الى أن مدة السنتين المنصوص عليها في المشروع كمدة انتقالية تعتبر غير كافية لاستيعاب الواقع الفلاحي في تونس متطلبات مشروع القانون حيث يتطلب ذلك توفير اليات مساندة وامكانيات مالية ضخمة.
ان الحديث اليوم عن تأهيل القطاع الفلاحي بعد المصادقة على مشروع القانون هو اقرار بدخول اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق حيز التنفيذ ليبقى التوقيع عليها أمرا شكليا وبروتوكوليا، والحديث عن تأهيل القطاع الفلاحي لمدة 10 سنوات كما جاء على لسان وزير التجارة هو تجسيم لتوصيات الاتحاد الأوروبي على خلفية أن تنفيذ القانون الجديد يتطلب فترات انتقالية طويلة تتراوح بين 10 و15 سنة.