تونس... هويتها الفلاحة

تاريخ النشر 16/02/2021


المشـــكلة التـــي وضعنـــا فيهـــا أنفســـنا وحصرنـــا فيهـــا تفكيرنـــا وشـــكلت مأزقـــا لـــكل عمليـــة اصـــلاح وتطويـــر هـــي أننـــا لـــم نشـــأ تغييـــر طريقـــة تفكيرنـــا فـــي مســـألة الخيــارات الاقتصاديــة التــي تســتجيب لتونـــس الجمهوريـــة الثانيـــة ولـــم نـرد تغييـر السياسـات التـي لـم تثمـر غيـر الفشـل وبقيـت النخبـة الحاكمـة إلــى اليــوم تطبــق نفــس التوجهــات وتسـتجلب نفـس الحلـول التـي لجـأت إليهـــا الانظمـــة القديمـــة لقـــد اتضـــح أن تفكيرنـــا يحتـــاج أن يتغيـــر وأن نظرتنـــا الاقتصاديـــة فـــي حاجـــة هـــي الاخـــرى إلـــى تغييـــر وأن منـــوال التنميـــة القديـــم لـــم يعـــد يفـــي بالحاجـــة وتجاوزتـــه الاحـــداث واســـتهلك واســـتنفذ أغراضـــه واليـــوم بلادنـــا تحتـــاج إلـــى نظـــرة تنمويـــة جديـــدة ورؤيـــة اقتصاديـــة مختلفـــة تقطـــع مـــع تهميـــش الفلاحـــة والمراهنـــة اساســـا علـــى قطاعــات الســياحة والخدمــات لدفــع عجلــة النمــو خاصــة بعــد ان اتضــح أن قطــاع الخدمــات لــم يعــد بإمكانــه أن يحقــق الكثيــر لتونــس وأن الاقتصــاد القائـــم بالدرجـــة الاولـــى علـــى الســـياحة لا يمكـــن أن يســـير ببلادنـــا الـــى الامـــام.

مـــا حصـــل بعـــد الاســـتقلال أن الدولـــة الحديثـــة تبنـــت خيـــارات اقتصاديـــة ومنـــوال تنميـــة يقـــوم علـــى الســـياحة والخدمـــات والصناعـــات الصغـــرى القائمـــة علـــى مؤسســـات المناولـــة فـــي قطـــاع النســـيج والاحذيـــة فـــي إطـــار منظومـــة قانـــون 1973 ثـــم يأتـــي قطـــاع الفلاحـــة فـــي آخـــر حلقـــات ركائـــز الاقتصـــاد وقـــد اســـتطاع هـــذا المنـــوال التنمـــوي أن يصمـــد لســـنوات طويلـــة ومكـــن مـــن تحقيـــق قـــدر مـــن التشـــغيل واســـتطاعت الدولـــة بفضلـــه تحديـــث البـــلاد وتطويـــر المجتمـع وتحسـين حـال الشـعب لكـن هـــذه المنـــوال عـــرف تراجعـــا بدايـــة مـــن أواســـط الثمانينـــات وزاد تهالـــكا فـــي زمـــن حكـــم بـــن علـــي لنجـــد أنفســـنا اليـــوم وبعـــد الثـــورة أمـــام وضــع صعــب وخيــارات اقتصاديــة قــد اســـتنفذت قدرتهـــا علـــى المواصلـــة وعلـــى الافـــادة بعـــد أن تراجعـــت القطاعـــات التـــي اعتبـــرت قاطـــرة الاقتصـــاد وأســـس التنميـــة ونعنـــي هنـــا تراجـــع مـــردود الســـياحة نتيجـــة ظـــروف عالميـــة وداخليـــة قلصـــت مــن مردوديتهــا ومــن قدرتهــا علــى لعـــب نفـــس الـــدور الـــذي أوكل لهـــا فـي السـبعينات مـن القـرن الماضـي وحتـــى ســـنوات قليلـــة قبـــل الثـــورة وبدورهـــا فقـــدت المؤسســـات التـــي قامـــت علـــى صناعـــة النســـيج والاحذيـــة واشـــتغلت فـــي المناولـــة لفائـــدة مؤسســـات أجنبيـــة هـــي الاخـرى قدرتهـا علـى توفيـر مواطـن الشـــغل المطلوبـــة وهـــو الهـــدف الـــذي مـــن أجلـــه اختـــارت الدولـــة التونســـية تبنـــي مثـــل هـــذا التوجـــه الاقتصـــادي الـــذي فتـــح البـــاب واســعا امــا المســتثمرين الاوروبييــن.

ومكنهـــم مـــن امتيـــازات قمرقيـــة وجبائيـــة اســـتثنائية وبالتالــي فــإن النســيج الاقتصــادي القائـــم علـــى الخدمـــات وعلـــى المؤسســـات المنتصبـــة وفـــق قانـــون 1973 قـــد انهـــار تمامـــا وفقـــد قوتـــه ولـــم نجـــده بعـــد الثـــورة لمـــا احتجنـــا إليـه حينمـا تراجـع الاقتصـاد التونسـي وأمـــام هـــذه التحـــولات التـــي كشـــفت عنهـــا الثـــورة بـــرز قطـــاع الفلاحـــة منقـــذا للاقتصـــاد واســـتطاع رغـــم كل الظـــروف الصعبـــة التـــي مـرت بهـا البـلاد أن يسـد الفـراغ الـذي تركـــه تراجـــع قطـــاع الصناعـــة وترهـــل قطـــاع النســـيج والجلـــود والاحذيـــة وتمكنـــت الفلاحـــة مـــن أن تلعـــب دورا متقدمـــا فـــي انقـــاذ الوضـــع الخطيـــر الـــذي حصـــل والـــذي جعـــل كل المؤشـــرات الاقتصاديـــة تتراجـــع إلا مؤشـــر الفلاحـــة فقـــد اســـتطاع أن يعكـس قيمـة هـذا المجـال الحيـوي الـــذي أهملتـــه دولـــة الاســـتقلال وتجاهلتـــه كل الحكومـــات الســـابقة قبـــل الثـــورة وبعدهـــا حيـــث اســـتطاعت الفلاحـــة رغـــم وضعهـــا الصعـــب أن توفـــر نســـبا عاليـــة مـــن الاكتفـــاء الذاتـــي وأحيانـــا فائضـــا فـــي الانتـــاج وســـاهمت بارقـــام هامـــة فـــي مجـــال التصديـــر ودعـــم خزينـــة الدولـــة بالعملـــة الصعبـة والتقليـص مـن عجـز الميـزان التجـــاري الوطنـــي ومـــن هـــذا المنطلـــق علينـــا أن نقتنـع اليـوم بـأن الفلاحـة هـي الحـل الحقيقـي لمشـاكلنا التنمويـة وهـي فـــي مقدمـــة القطاعـــات القـــادرة علــى خلــق الثــروة وجلــب الاســتثمار بشـــرط أن تتوفـــر الارادة السياســـية المؤمنـــة بهـــذا الخيـــار وشـــريطة رصـــد كل الامكانيـــات الماديـــة مـــن أجـل الارتقـاء بالقطـاع حتـى لا يبقـى تشــجيع الفلاحــة مجــرد شــعار نــردده ونســمعه كثيــرا ولكنــه يظــل للاســف دون فاعليـة واليـوم نحتـاج أن يصبـح هـــذا الشـــعار قناعة وواقعـــا معيشـــا إذا أردنـــا أن نغيـــر مـــن حـــال بلادنـــا ان تونـــس هويتهـــا الاقتصاديـــة منـذ القـدم كانـت الفلاحـة ولا يمكـن ان تكـــون صناعيـــة أو شـــيئا آخـــر وكل مــا نحتاجــه هــو تغييــر النظــرة لهــذا القطـــاع والتفكيـــر فـــي الخيـــارات الاقتصاديـة ومنـوال التنميـة بصـورة مختلفـــة عـــن التفكيـــر الحالـــي وأن نضـــع الاســـتراتيجيات والسياســـات الداعمـــة لهـــذا الخيـــار الاســـتراتيجي .. فقدرنـا أن نكـون بلـدا فلاحيـا

أمام ما اثبتته الفلاحة من قدرة على الانتاج والتصدير والرفع من نسب النمو الوطني كان السؤال الذي ظل يطرح باستمرار لماذا لا نغير من خياراتنا الاقتصادية نحو تبني منوال تنمية جديد يستجيب للمتغيرات الحاصلة ويمنح الفلاحة موقعا متقدما على كل القطاعات الاخرى ؟ ولماذا لا نتبنى سياسات جديدة تجعل من الفلاحة قاطرة الاقتصاد التونسي ؟ وأخيرا لماذا لا تكون الفلاحة اليوم في مقدمة ركائز الاقتصاد في حين تبقى القطاعات الاخرى على أهميتها من سياحة وخدمات وصناعة وتجارة قطاعات مساندة وداعمة ؟