الزحف العمراني يلتهم الأراضي الزراعية

تاريخ النشر 16/02/2021


الزحف العمراني على الأراضي الفلاحية ظاهرة انتشرت وتغلغلت في مختلف أرجاء المدن التونسية بفعل اكتساح البناء الفوضوي والمساكن والأحياء العشوائية وهو ما اصبح يطرح بقوة قضية تراجع الرصيد العقاري الفلاحي وتلاشي النسيج الزراعي وتقلص دائرة المساحات الخضراء

وبالعودة الى الوراء – سنوات السبيعنات وحتى الثمانينات – كانت العديد من المناطق والمدن القريبة من تونس العاصمة تزخر بالأراضي الزراعية وتجود بمختلف المنتوجات الفلاحية لكن هذا المنظر لم يعد الان سوى مجرد "خيال" بسبب تعرض مخزوننا من الأراضي الفلاحية الخصبة إلى عملية استنزاف كبيرة وتراجع رصيدنا العقاري من الأراضي الزراعية بشكل رهيب لصالح البناء العشوائي والتجمعات السكنية الفوضوية التي تقام دون رخص بناء ودون توفر التهيئة العمرانية الضرورية

و تكشف الأرقام الرسمية على أن 40 % من النسيج العمراني المبني مقام على أراض فلاحية بما يعني أن ما يقارب من نصف التجمعات والأحياء السكنية تنتمي إلى القطاع الموازي غير المنظم ومع ذلك فإن الدولة بكل مقدراتها وهياكلها لم تحرك ساكنا لإيقاف هذا النزيف ولم تقدر أن تفعل شيئا أمام الزحف العمراني على الأراضي الفلاحية

وحتى الهياكل التي انشأتها الدولة لتنظيم قطاع السكن وتوفير مساحات مهيأة وتوجيه طالبي السكن إليها فإنها لم تنجح هي الأخرى في أن تحد من التدمير المتواصل للأراضي الفلاحية ولم تستطع ايقاف توسع البناء الموازي فلا الوكالة العقارية للسكنى ولا الشركة الوطنية العقارية للبلاد التونسية ولا الشركة الوطنية للنهوض بالمساكن الاجتماعية وهي الهياكل التابعة للدولة و التي تلعب دورا كبيرا في المحافظة على النسيج الفلاحي بما تنجزه من تهيئة عمرانية ووحدات سكنية منظمة قادرة على أن تقاوم الاتلاف الكبير للأراضي الفلاحية

حيث أن هذه الهياكل المتدخلة في قطاع السكن والتهيئة الترابية لم تقدر مجتمعة أن تستجيب بالقدر الكافي لحاجيات وطلبات المواطنين من السكن والنتيجة أن بلادنا تشهد اليوم تراجعا حادا في المساحات الزراعية يقابله انتشار واسع للعمران أغلبه بشكل فوضوي على حساب الأراضي الخصبة خاصة إذا علمنا أن نسبة الأراضي المخصصة للزراعة لا تتجاوز 10 مليون هكتار من اجمالي مساحة البلاد المقدرة بحوالي 163 ألف كلم مربع أما المساحة المخصصة للزراعة والمستغلة في الفلاحة فهي مقدرة بحوالي 5 مليون هكتار في حين تمثل الأراضي المخصصة للمرعى حوالي 4.8 مليون هكتار وتستفيد الغابات والسباسب بنسبة تقدر بـ 1.6 مليون هكتار بما يعني أن المساحات المخصصة للزراعة والاستغلال الفلاحي قليلة جدا ومع ذلك تتعرض هذه المساحات إلى التدمير العشوائي والاكتساح غير المنظم والذي إن تواصل بهذا الشكل وهذه الوتيرة فإننا سوف نكون بعد بضع سنوات مهددين في قوتنا وأمننا الغذائي حينما لا نجد ما نزرعه من أراض.

إن الخطير في هذا الموضوع هو أن ما  يتعرض له الرصيد العقاري الفلاحي من استنزاف وتدمير ليس فقط بفعل الاكتساح العمراني الكبير، البعض منه منظم والكثير منه عشوائي وغير منظم ويقع خارج القانون والتراتيب العمرانية وإنما التهديد الأكبر يحصل من وراء التشريعات التي ظهرت بعد الثورة وبسبب التوجهات والخيارات والسياسات الجديدة لحكام اليوم والتي تمثل الخطر الحقيقي على فلاحتنا وزراعتنا وأمننا الغذائي إذا ما فقدنا الأراضي الخصبة والأراضي الزاعية ومن هذه التشريعات الحديثة التي تمثل تهديدا جديا لنسيجنا الفلاحي القانون الأخير الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب والمتعلق بدفع الاستثمار وتحسين مناخ الاعمال والذي أسال الكثير من الحبر ومن ردود الفعل الغاضبة والمعارضة لمقاصده ومآلاته فهذا القانون الذي سوقت له الحكومة على أنه تشريع ثوري جاء ليبسط الاجراءات ويخفف العبء الإداري على المستثمرين وجاء يشجع على الاستثمار في القطاع الفلاحي وقطاع التعليم العالي قد فتح الباب على مصراعيه أمام المستثمر الخاص الوطني والأجنبي للاستثمار بما يعني أنه اليوم وبفضل هذا القانون فإننا سوف نكون أمام وضعيات قانونية يتم بفضلها تحويل أراض فلاحية خصبة إلى مشاريع استثمارية وأمام مشاريع استثمار خارج قطاع الفلاحة وتتم على أراض فلاحية بعد أن سهل المشرع عملية تغيير صبغة هذه الاراضي حيث أحدث هذا القانون لجنة جديدة اطلق عليها اسم " لجنة التراخيص والموافقات " تتكون من ممثلين عن الوزارات والهياكل العمومية المعنية خول لها البت في مطالب تغيير صبغة الأراضي الفلاحية المتعلقة بمطالب انجاز عمليات استثمارية على أراضي فلاحية خصبة وذلك بقطع النظر عن الاحكام المخالفة ودون مراعاة للقانون عدد 87 لسنة 1983 المتعلق بحماية الأراضي الفلاحية بما يعني أنه من هنا فصاعدا وبفضل هذا القانون يمكن أن نتخلى عن أرض فلاحية خصبة وعن عقارات مخصصة للزراعات الحيوية و عن مساحات منتجة لصالح مشروع صناعي أراد صاحبه المستثمر إقامته فوقها في ظل مسوغ دفع الاستثمار وتحسين مناخ الأعمال وجلب المستثمرين الاجانب وتشجيعهم على الاستثمار في بلادنا .

قديما تحدث الفيلسوف الفرنسي عن العقد الاجتماعي باعتباره ضرورة للإنسان وعن المصلحة العامة باعتبارها من مستلزمات هذا العقد رغم قهريتها وتعديها على حقوق الفرد لأنها حسب رأيه الضامن الوحيد للتعايش وتقاسم الأدوار بين الحق العام والحق الخاص ولكن يبدو أن هذه المقولة التي قامت عليها فكرة الدولة وفكرة العقد الاجتماعي قد فقدت اليوم قيمتها بعد أن تخلت الدولة عن دورها التعديلي ودورها الحاضن لحقوق الجماعة والراعي لأمن الأفراد لصالح المصلحة الخاصة ولصالح الاستثمارات الخاصة على حساب أمن المجموعة الوطنية وامن عامة الشعب . فهل نحتاج ثورة أخرى حتى نعدل البوصلة ؟