مفهوم الأمن الغذائي يستبعد المسؤولية الإلزاميّة للإنتاج المحلي في توفير الاحتياجات الغذائية ويطرح سياسة التوريد كخيار بديل
التسويق لفكرة التوريد كحلً سحري لمشكل نقص الغذاء ينطوي على خدعة لتكريس تبعية الدول وسلبها سيادتها بغاية إخضاعها والتحكّم في قرارها
الفلاحة الصغرى والمتوسطة مصيرها التفقير والاندثار اذا تواصلت سياسة اغراق السوق بالمنتوجات الموردة تحت غطاء عولمة الامن الغذائي
السيادة الغذائية تعطي الأولوية المطلقة للزراعة المحلية وتؤسس لمشروع جديد قوامه مركزية الفلاح كفاعل رئيسي في عملية الإنتاج
مشروع السيادة الغذائية يقوم على مبدأ ربط أسعار الغذاء بتكاليف إنتاجها حتى يؤمن للفلاحين ظروف عيشهم الكريم و إمكانيات استدامة نشاطهم.
فلاحتنا عنوان سيادتنا وتونس مطالبة بتغيير سياساتها لتجاوز حالة التبعية الغذائية
لعلّ من أبرز المهام المطروحة علينا اليوم مهمّة العمل على تفكيك المفاهيم المستعمَلة من قبل الاجهزة الحكومية والمؤسسات الدولية في الترويج لأطروحاتها حول المسألة الفلاحية. فذلك شرط أساسي لمزيد تمثل ميكانيزمات التحكم في إنتاج وتجارة الغذاء حول العالم .
في سياق هذا التحليل نتعرّض إلى ثنائية مفاهيمية على درجة عالية من التناقض، ينتصر فيها كلُّ مفهوم إلى تصوّر فلاحي وزراعي يمثّل تعبيرة لمشروع سياسي واقتصادي واجتماعي ومجتمعي مختلف عن الآخر ونقيض له.
تتمثّل هذه الثنائية المفاهيمية في جدلية الصراع بين مقولتيْ الأمن الغذائي والسيادة الغذائية.
خدعة المفاهيم
باستعراضنا لمفهوميْ الأمن الغذائي والسيادة الغذائية ومحاولتنا استبيان دلالات كلّ منهما إنما نكون بصدد كشف وتعرية ما يمكن أن نصطلح عليه بـ “خدعة المفاهيم”.
لا يكمن الإشكال المرتبط بهذيْن المفهومين في مفردتيْ ”الأمن” و”السيادة” – على صعوبة عملية التفريق بينهما – وإنّما يتمثّل أساسًا في خلفيّات كلٍّ منهما وآفاقه وانعكاساته كمشروع اقتصادي واجتماعي ومجتمعي وسياسي أيضا.
حاولنا خلال عملنا الميداني رصد تفاعلات العشرات من صغار ومتوسطي الفلاحين بشأن معنيَيْ مفهوميْ الأمن الغذائي والسيادة الغذائية. فتبيّن أنّ أكثرهم، إن لم نقل غالبيتهم الساحقة، لا يتمثلون بشكل واضح المعنى الدقيق لكُلٍ منهما. إلا أنّهم في نفس الوقت، وفي إطار محادثات جانبية تتناول وضعياتهم الاقتصادية والاجتماعية وطرح إشكالاتهم اليومية، يقدّمون بتحاليلهم توصيفا مختزلا لمفهوم السيادة الغذائية من ذلك اعتماد صغار الفلاحين لأمثال ومقولات اقتبسوها من واقعهم المَعيش؛ منها على سبيل الذكر لا للحصر: ” باش تكون سيّد راسك لازم لقمتك تكون من فاسك“…
يهدف هذا العمل التوضيحي بشأن مفهوميْ ”الأمن الغذائي” و”السيادة الغذائية” إلى تبديد كل المغالطات بشأنهما وتيسير مسار الانتصار لأحديهما من منظور صغار ومتوسطي الفلاحين، بوصفهم الفاعلين الأساسيّين في عملية الإنتاج الفلاحي والغذائي.
فما هي خلفيّات هذيْن المفهوميْن؟ وإلى أيِّهما يُفترض أن ينتصر صغار ومتوسطو الفلاحين ؟
في مفهوم الأمن الغذائي : الغذاء كأداة هيمنة وإخضاع
إن مفهوم الأمن الغذائي هو قطعا المصطلح الأكثر رواجا واستعمالا في خطابات السياسيين والمسؤولين الرسميين، وكذلك من قبل المؤسسات الدولية المالية كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومختلف المؤسسات المالية العالمية الأخرى.
ظهر مفهوم الأمن الغذائي في نهاية ستينيّات القرن الماضي ويُعرَّف حسب منظمة الأغذية والزراعة الدولية “الفاو” بـ ” توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتين، بما يلبّي احتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة صحية ونشطة“
يلاحظ في التعريف المعتمد أعلاه أنّ جوهر مفهوم الأمن الغذائي يتلخّص في “توفير الغذاء” دون الخوض في نقاش سبل وإمكانيات توفيره. وهنا يكمن الإشكال الرئيسي باعتقادنا.
من جهة أخرى، وجب أن نشير إلى أن ظهور مفهوم الأمن الغذائي في أدبيات المؤسسات الدولية أتى معوضا لمفهوم “الاكتفاء الذاتي” الذي ظهر أساسًا خلال خمسينيّات القرن الماضي. وقد اقترن الأخير وقتئذ بحركات التحرّر الوطني التي جعلت من مهمة تحقيق الاكتفاء الذاتي المحلي من الغذاء على رأس اهتماماتها وأولوياتها التحررية، وفي أفق بنائها الذاتي.
إذا، يعالج مفهوم الأمن الغذائي مسألة توفير (أو وفرة) الاحتياجات الغذائية عالميًا وإقليميا وطنيًا دون اشتراط ارتباطها بعمليّة الإنتاج الفلاحي المحلّي. أيْ أن تصبح مهمّة توفير الاحتياجات الغذائية عابرة للجغرافيا وللحدود دون أن يكون المزارع المحلي فاعلا أساسيا في تحقيقها.
ولكن إذا لم يُعتبَر الإنتاج الزراعي المحلي شرطا أساسيا من شروط تحقيق الأمن الغذائي، أي توفير الاحتياجات الغذائية الضرورية بالنسبة لمجموعة أو لبلد معين، فما هي البدائل المقترحة لتحقيق ذلك؟
في الحقيقة، تُعدُّ الإجابة على هذا السؤال مدخلا أساسيا لفهم دلالات مفهوم الأمن الغذائي واستبيان انعكاساته السلبية، سواء على صغار الفلاحين أو على مجمل الشعوب المُفَقَّرة في العالم، ونعني بذلك شعوب بلدان الجنوب تحديدا.
حيث يستبعد مفهوم الأمن الغذائي المسؤولية الإلزاميّة للإنتاج المحلي في توفير الاحتياجات الغذائية الضرورية، فيما يقترح بالمقابل أن تعوّض سياسة توريد المواد الغذائية مهام إنتاجها محليا. بمعنى آخر فإنّ مفهوم الأمن الغذائي يقترح عدم ضرورة إنتاج بلد ما لحاجياته الغذائية الأساسيّة، طالما يؤمّن استيرادها من دول أخرى توفير هذا الغذاء بشكل كافٍ.
قد تبدو فكرة توريد الاحتياجات الضرورية من الأغذية حلًا سحريا لمشكل الغذاء في العالم وتكريسا لمبدأ التضامن بين الشعوب. إلّا أنّها تنطوي في حقيقة الأمر على آليات تهدف إلى تكريس تبعية الدول خاصة الفقيرة منها وسلبها سيادتها بغاية إخضاعها والتحكّم فيها.
إذ شهدت منظومة الانتاج الفلاحي تغيّرا جوهريا ارتكز على ثنائية الإنتاجية والربح لتفقد بذلك عمق جوهرها المعيشي (الفلاحة المعيشية) والاجتماعي والإنساني لصالح ما يمكن أن نصطلح عليه بالفلاحة التجارية(l’agrobusiness)وهو ما يؤكد صحة الأطروحة القائلة بأنّ هذا النمط الإنتاجي الجديد لا يمثل سوى آلية سلب وانتزاع وإخضاع.
بقي أن نشير إلى أنّ مجمل الخطابات المتعلقة بمفهوم الأمن الغذائي هي موجَّهة في أغلب الحالات إلى دول الجنوب. هذه الدول التي ما زالت تواجه تحدّيات تحقيق استقلالها الفعلي جراء تداعيات الحقبة الاستعمارية وارتهانها المتواصل لسياسات المؤسسات المالية العالمية )صندوق النقد الدولي والبنك العالمي…).وهو ما فاقم في حدّة أزماتها الهيكلية، وما من شأنه تأبيد تبعيّتها كنتيجة طبيعيّة لانخراطها في أطروحات وبرامج الأمن الغذائي.
ولعلّ من أبرز تمظهرات الأزمة الهيكلية في دول الجنوب مشكلة إنتاج الغذاء وتوفيره، وما يمثّله ذلك من تحدٍ استراتيجي وعاجل في نفس الوقت.
لكن أليس التوجه بخطاب الأمن الغذائي، المرتكز أساسا على مقولة التوريد، إلى دول الجنوب سوى وسيلة أو خدعة لمزيد إخضاعها وعرقلة تحرّرها ومنعها من انتاج كافة احتياجاتها الضرورية من الغذاء؟
تنطوي فكرة التوريد في حدّ ذاتها، بوصفها أداة من أدوات الاقتصاد الليبرالي، على تحليل مفاده أن الغذاء لا يعدو أن يكون سوى سلعة كباقي السلع، يتم تحديد سعرها وفقا لمنطق العرض والطلب في السوق العالمية.
وإنّ إدراج مختلف الاحتياجات الغذائية الضرورية للشعوب في أسواق البورصة العالمية والتحكّم المبرمج في أسعارها، إضافة إلى استعمال الغذاء كأداة لإدارة الحروب أو في حالات الحصار الاقتصادي (برنامج “النفط مقابل الغذاء” في العراق مثلا)، لهي أدلّة بليغة على أنّ الغاية الرئيسية لعمليات انتاج الغذاء لم تعد توفيره لمحتاجيه. بل بات الهدف استعمال الغذاء كوسيلة لمراكمة الأرباح وإخضاع الشعوب التي لا تتوفّر عليه.
وإضافة إلى انعكاسات سياسات التوريد على مدخّرات الشعوب وسيادة الدول فإنّ لهذه الفلسفة انعكاسات كارثية مباشرة على بُنى الإنتاج الفلاحي المحلّي والوطني وخصوصا على صغار ومتوسطي الفلاحين. لعلّ أهمّها:
- تدمير إمكانيات الزراعة المحلية، وبالتالي تفقير صغار ومتوسطي الفلاحين.
- بفعل الميزات التفاضلية للمنتوجات الغذائية المستورَدة وضعف إمكانيات المنافسة المحلية، سيصل آلاف الفلاحين المحليين إلى الإفلاس، ممّا سيضطرهم إلى ترك العمل الفلاحي أو التأقلم مع منطق السوق.
- تعويض نمط الإنتاج الفلاحي المحلّي المرتكز على توفير أساسيات التغذية المحلية بنمط متجّه لمنتجات ثانويّة، لكن أكثر ربحيّة.
- تحويل وجهة الفلاحة الوطنية من مهمّة استيفاء الاحتياجات المحلية (الاكتفاء الذاتي) إلى استنزاف الثروات الطبيعية المحلية بغية الترفيع من حجم صادراتها ومعاملاتها.
- تخريب المخزون الوطني من البذور المحلّية لصالح البذور المستوردة والمعدَّلة جينيَا.
- تأبيد حالة التبعية الاقتصادية، وخصوصا الغذائية منها، وفقا لمقولة الاستيراد والارتهان الهيكلي لأسواق الغذاء العالمية.
يتّضح لنا ممّا تقدّم أنّ مفهوم “الأمن الغذائي” لا يخلو من مغالطات خطيرة تُترجم مصالح النظام الرأسمالي العالمي، عبر ما يشكّله من مؤسسات مالية دولية و وشركات كبرى، وتوظيفه سلاح الغذاء وفقا لأجندات التحكّم في خيرات الشعوب و مقدّراتها.
فالأمن الغذائي هو في النهاية ليس سوى تعبيرة عن ضمان ديمومة أمن ومصالح المستثمرين العالميين في تجارة الغذاء مقابل مزيد تجويع الشعوب وتفقير صغار ومتوسطي الفلاحين.
وهذا ما يتطلب العمل على خلق مفاهيم بديلة تعبّر بحقّ عن أوضاع وآمال جمهور صغار ومتوسطي الفلاحين، بأفق انعتاق زراعي بديل وبغاية أن يكون الغذاء في النهاية حقا إنسانيا غير مشروط.
لعلّ هذا الأفق المنشود هو ما يعبّر عنه مفهوم “السيادة الغذائية”، كمشروع زراعي مجتمعي بديل..
في مفهوم السيادة الغذائية: من أجل سيادة الفلاحين والشعوب على الغذاء
ظهر مفهوم السيادة الغذائية سنة 1996 على يد حركة “نهج المزارعين” خلال قمّة الغذاء التي عقدتها منظمة الأغذية والزراعة (الفاو). ووقع تعريف مفهوم السيادة الغذائية بكونها “حقّ الشعوب في إتبّاع نظام غذائي صحّي وثقافي وملائم ينتج بطرق مستدامة ” ويشمل المفهوم المبادئ التالية:
- الأولوية للزراعة المحلية لتغذية الشعب مع ضمان نفاذ الفلاحين إلى الماء والأرض والبذور والتمويل.
- حق المزارعين في إنتاج الأغذية وحق المستهلكين في تحديد نوعية ما يريدون استهلاكه وممّن وكيفية إنتاجه.
- حقّ الدول في إتباع إجراءات حمائية من الواردات الزراعية والغذائية.
- ضرورة ربط أسعار المواد الفلاحية بتكاليف الإنتاج، بحيث يكون للدول الحق في فرض الضرائب على الواردات منخفضة السعر، والتزامها بإنتاج فلاحي مستدام وبمراقبة الإنتاج في السوق الداخلية لتجنب النقص او الفائض.
- تشريك الشعوب في اختيارات وتوجهات السياسات الزراعية المزمع اعتمادها.
- الاعتراف بحقوق الفلاحين الذين يؤمّنون دورا رئيسيا في الإنتاج الزراعي والغذائي
من جهة أخرى، يعّرف إعلان “نياليني” السيادة الغذائية كالتالي:
للخروج من ازمتها الاقتصادية تونس في انتظار ثورتها الفلاحية
” السيادة الغذائية هي حقّ الشعوب في تغذية سليمة، ملائمة للخصوصيات الثقافية، ومنتَجة عبر طرق مستدامة ومحترمة للبيئة، إضافة الى حق الشعوب في تحديد أنظمتها الغذائية والزراعية. وتُولي السيادة الغذائية أهمية مركزية الى منتجي وموزّعي ومستهلكي الغذاء صلب الأنظمة والسياسات الغذائية بدلًا عن ميكانيزمات الأسواق الحرة والشركات متعددة الجنسيات. كما تدافع السيادة الغذائية عن مصالح الأجيال القادمة وتعمل على ضمان اندماجها. وهي تمثّل استراتيجية مقاوِمة تعمل على تفكيك أنظمة الاتجار في الغذاء ومحاربة السياسات الغذائية المعمول بها حاليا. كما تعني السيادة الغذائية توجيه المنتجين المحليين ليكونوا المحدّدين المركزيّين لمختلف الأنظمة الغذائية والسياسات الزراعية“.
و تعطي السيادة الغذائية الأهمية للاقتصاديات والأسواق المحلية والوطنية من خلال مركزية صغار ومتوسطي الفلاحين في عمليات الانتاج. وذلك فضلا عن أولوية الفلاحة الأُسَريّة وأساليب الصيد البحري التقليدية وتربية المواشي اعتمادا على المراعي، إضافة الى أساليب إنتاج وتوزيع واستهلاك غذائي ترتكز على مبدأ الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
وتراهن السيادة الغذائية على أهمية التجارة الشفافة التي تضمن دخلا عادلا لكافة الشعوب، فضلا عن تعزيزها لحقوق المستهلكين في غذاء سليم وفي تحديد أساليبهم الغذائية. كما تشترط السيادة الغذائية أن تكون حقوق استغلال الأرض والماء والبذور والمواشي والتنوع البيولوجي موجّهة بشكل أساسي الى المنتجين الحقيقيين للغذاء”.
ولعلّ أهم ما يمكن أن نستخلصه من ظهور مفهوم ”السيادة الغذائية” على حداثته هو أنّه كان تعبيرة حقيقية نابعة من عمق جمهور صغار ومتوسطي الفلاحين. وقد استطاعوا من خلاله تضمين مجمل ما يعانونه من إشكالات تعيق عمليات إنتاجهم الفلاحي وتصوراتهم من أجل مشروع فلاحي ينتصر في النهاية لفائدتهم وللشعوب عموما.
إذا، مفهوم السيادة الغذائية لم يكن في نهاية الأمر سوى حالة رفض واعية ومحاولةً للقطع مع سياسات الاستعمار الزراعي. وذلك عبر صياغة جملة من المبادئ العامة تؤسس لمشروع فلاحي جديد قوامه مركزية الفلاح كفاعل رئيسي في عملية الإنتاج، وإطعام الشعوب كغاية إنسانية سامية والحفاظ على ديمومة الموارد الطبيعية كشرط أساسي لتحقيق السيادة الغذائية.
في الحقيقة، يمكننا الجزم بأنّ مفهوم السيادة الغذائية هو نقيض مفهوم الأمن الغذائي. ففي حين يدعو هذا الأخير إلي مزيد التعويل على آلية استيراد الاحتياجات الغذائية، تُولي السيادة الغذائية الأهمية المطلقة لضرورة دعم الإنتاج المحلي. وفي حين ينبني مفهوم الأمن الغذائي على الدور المركزي للأسواق العالمية في مسألة توفير الغذاء، تنتصر السيادة الغذائية إلى حق الدول والشعوب عبر تشريك الفلاحين في تحديد سياساتها الزراعية وأولوياتها الغذائية.
من جانب آخر، في حين يروّج مفهوم الأمن الغذائي إلى ضرورة تبني اتفاقيات الشراكة الحرة، والتي تهدف إلى إغراق الأسواق العالمية بالمنتوجات الغذائية مستفيدة من الإعفاءات الجمركية، فإنّ مشروع السيادة الغذائية حريص على مبدأ أولوية الفلاحين في الإنتاج المحلي ويطالب بضرورة ربط أسعار الغذاء بتكاليف إنتاجها حتى يؤمن لهؤلاء الفلاحين إمكانيات عيشهم الكريم واستدامة نمط إنتاجهم الغذائي.
ولا شك أيضا في أنّ مستقبل الفلاحة في العالم، وفي تونس تحديدا، يتأرجح بين، من جهة أولى، منطق الربح أين تصطف عشرات الشركات المتعددة الجنسية ومن خلفها الدول صاحبة المشاريع الاستعمارية، ومن جهة ثانية مشروعًا انسانيًا ومستديمًا للفلاحة، يمثله مئات الملايين من صغار ومتوسطي الفلاحين بآمالهم في العيش الكريم لهم وللإنسانية جمعاء.
إننا حيال هذه الثنائية لا يمكن إلّا أن نتموقع في إطار مشروع فلاحة إنسانية ومستدامة، فلاحة تنتصر لصغار ومتوسطي الفلاحين ولحق الشعوب في التغذية الصحية والملائمة وغير المشروطة.
ما بعد المفاهيم: تونس ومشروع السيادة الغذائية
إذا كان مفهوم السيادة الغذائية مفهوما جديدا، ظهر في نهاية تسعينيات القرن العشرين في سياقات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية خاصّة بأمريكا اللاتينيّة، فإنّ محاولات إسقاطه مباشرة على الواقع التونسي ستُعدُّ ضربًا من المثالية. وذلك بالنظر إلى خصوصية السياقات وإمكانيات أن يختلف عمق مشروع السيادة الغذائية فيما بينها.
يتنيّن من خلال ما تقدم أنّ مهمّة تحديد ملامح مشروع السيادة الغذائية في سياق تونسي ستكون بالضرورة مشروطة بتفكيك واقع منظومة الانتاج الفلاحي، وبإبراز أهم اشكالياتها الهيكلية ومعيقات تطوّرها. وكذلك عبر طرح تساؤل مركزي حول تموقع صغار ومتوسطي الفلاحين تجاه عمليات إنتاج الغذاء بشكل عام.
بالرغم ممّا يزخر به واقع الفلاحة التونسية من إمكانيات إنتاجية محترمة في عمومها، إلاّ أن هذه المنظومة تشكو من عدة إشكاليات هيكلية قد تهدد مستقبلها.ولعلّ أهمها يتمثل فيما يلي:
- تشتت الملكيات العقارية الفلاحية. وهو ما من شأنه إحداث تغييرات جوهرية على أنماط الانتاج الفلاحي، فضلا عمّا تمثله من تهديد حقيقي لاستدامة النشاط الفلاحي. إذ أنّ نسبة 54 بالمائة من المستغلات الفلاحية لا تتجاوز مساحتها 5 هكتارات في حين أن 75 بالمائة من مجموع المستغلات الفلاحية لا تتجاوز مساحتها 10 هكتارات.
- ترسّخ ظاهرة تركز الأراضي الفلاحية في يد أقلّية من المستثمرين أو كبار الملاكين العقاريين. إذ أنّ 80 بالمائة من الفلاحين لا يملكون سوى 20 بالمائة من الأراضي، أي أنّ 400,000 فلاح لا يملكون سوى 960,000 هكتار، بمعدّل مساحة لا تتجاوز 2.5 هكتار لكلّ فلاح
- تطوّر نسبة الفلاحين المتخلّين عن نشاطهم الفلاحي تحت تأثير مديونيتهم المرتفعة، ولعدم مردودية عمليات إنتاجهم. إذ أشار الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري إلى أنّ 12 ألف فلاح تونسي قد تخلوا نهائيا عن ممارسة الفلاحة سنة 2018
- التغيّرات المناخية وتناقص الموارد الطبيعية من المياه. إذ صنفت تونس في المرتبة 33 من بين البلدان التي ستواجه نقصا حادا في المياه بحلول 2040، ومن المحتمل أن تخسر 80 بالمائة من مواردها المائية غير المتجددة.
- تواصل عجز الميزان الغذائي. إذ بلغ 1354.6 مليون دينار سنة 2017 مقابل 1075.7 مليون دينار سنة 2016. وهو ما يعني تطور وتيرة الواردات الغذائية، وقد بلغت نسبة 23.9 بالمائة ما بين سنتي 2013 و2017. و تشمل الواردات الغذائية المنتجات الفلاحية الأساسية على غرار القمح الصلب والقمح اللين والحليب و مشتقاته، وهو ما يمكن إدراجه في إطار التبعية الغذائية.
- تقهقر المنظومات الإنتاجية الفلاحية المحلية نظرا لارتفاع أسعار المُدخلات الفلاحية، ولتحديد أسعار البيع بما لا يضمن تغطية مصاريف الإنتاج على غرار قطاعات إنتاج الحليب وتربية الدواجن…
من خلال هذا العرض البسيط لجملة من الإشكاليات التي تعانيها الفلاحة التونسية، نستطيع أن نتمثل وبكلّ وضوح الطابع الهيكلي لأزمة منظومة الإنتاج الفلاحي واستقراء نسق تطوّرها التدميري سواءٌ على مستوى بُنى الإنتاج القاعدية أو من خلال السياسات العامة المنتَهجة. فهذه السياسات ستؤدّي بالضرورة الى مزيد تفقير صغار ومتوسطي الفلاحين وفصلهم عن وظيفة الإنتاج الفلاحي، إضافة الى تسهيل تحقّق السيناريو، الأكثر خطرًا، والمتمثّل أساسا في مزيد الإرتهان الاقتصادي وتأبيد حالة التبعية الغذائية عبر مواصلة نسق الإستيراد مقابل التخلي التدريجي عن وظيفة الإنتاج المحلي.
يفترض المنطق السليم أن يتمّ التعامل مع هيكلية أزمة الفلاحة التونسية من منطلقات إمكانيات استنهاضها وتوفير كافّة شروط العمل على تنميتها. وذلك عبر بلورة الخطط والاستراتيجيات الكفيلة بتحويلها إلى فلاحة سيادية تستجيب لأبسط ضروريات الاحتياجات من الغذاء، وكي يكون الفلاحون عمودها الفقري وتعبيرتها الشعبية. إلاّ أنّ الواقع التونسي ينطوي على مقاربات معاكسة تمامًا.
مقال من دراسة حول : فلاحتنا،غذاؤنا،سيادتنا. تحليل للسياسات الفلاحية التونسية على ضوء مفهوم السيادة الغذائية